تصحيح أخطائنا التراثية – مرج البحرين يلتقيان

بسم الله الرحمن الرحيم

تصحيح أخطائنا التراثية – مرج البحرين يلتقيان

EARTH.jpg

يشير كتاب الله تعالى في عدة آيات إلى البحرين ولعل كلها تشير إلى بحرين حقيقيين في منطقة ما حول الكرة الأرضية. ولكنه سبحانه وتعالى يوضح بعض ملامح البحرين وآثارهما في استقرار هذه الكرة المعدة لإسكان البشر في أربعة من السور الكريمة. إذن لا شك في أنهما ليسا مجرد بحرين أحدهما مالح والآخر عذب وهما يلتقيان في نقطة معلومة مثل شط العرب ونهر التايمز ونهر الأمازون ونهر النيل وغيرها من الأنهار التي تصب في البحار كما ظنه المفسرون قديما وحديثا. إذ لا يمكن تصور أي تأثير استقراري لمثل هذه المثاني المائية في الأرض. وحتى نقف بدقة على أهميتهما فنحدد مكانهما بالتبع، علينا أن ننظر قليلا إلى الجيولوجيا الأرضية وتصورات علماء الجيولوجيا في الحوادث الماضية.

ذلك لأنه تعالى يذكر في سورة النمل: أَمَّن جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61). فالأنهار برمتها تؤثر في استقرار الكرة كما تؤثر فيه الجبال إضافة إلى هذين البحرين المنوه عنهما. وسوف نذكر الآيات الأربعة بعد قليل وأدعو القراء الكرام للرجوع إلى القرآن والإمعان في عدد من الآيات السابقة واللاحقة التي تحيط بهذه الآيات الأربع ليلاحظوا أهميتها البالغة. إنه تعالى يتحدث عن بداية خلق الإنسان من التراب ومن الصلصال ومن الماء كما يذكر إعادة الخلق وتنظيم دوران الأرض والشمس وظهور ناشئتي الليل والنهار كما يعاتب الذين يشركون عبيد الله بالله دون علم. نحتاج إلى أبحاث مفصلة لمعرفة كل هذه المسائل ولكن في غير هذا المكان. إلا أنني ذكرتها هنا لأنوه على الأهمية البالغة لهذين البحرين بأنهما كانا مكانا لحادثة جيولوجية قديمة جدا. إنهما بحران معلومان لا ثالث لهما في كل الأرض.

في بدايات القرن الماضي (عام 1912 احتمالا) أكمل العالم الألماني ألفريد فيجينر (Alfred Wegener) دراسة الشواطئ الأوروبية والإفريقية للمحيط الأطلسي وما يقابلها من شواطئ القارة الأمريكية ليلاحظ بأن تضاريسهما متجارية فاحتمل يابسة موحدة ضخمة انفلقت قبل 200 مليون سنة فانفصلت قطعة منها وسارت باتجاه الغرب واستقرت في مكان سميت فيما بعد بالقارة الأمريكية. أعلن فيجينر فرضيته غير المشفوعة بأدلة علمية فلم تلق الاهتمام اللائق وحاول تبرير فرضيته بزيارة المناطق المثلجة في المناطق الاسكندنافية ومات في هذا السبيل وماتت معه فرضيته. وفي منتصف القرن أحييت الفرضية من جديد وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية وإقدام الكتلة الرأسمالية بدراسة قاع المحيط الأطلسي بغية وضع خريطة لمرور الغواصات بالإضافة إلى بعض الدراسات العسكرية الأخرى.

اقتنع العلماء بصحة نظرية الانفصال وبأن القشرة التحتية للمحيطات والقارات متشكلة من مقاطع أو عوامات صخرية كبيرة (Tectonic Plates) بقطر 100 كيلومتر تقريبا وتحمل كل منها جزءا من قارة أو من محيط أو من كليهما. تقدر عدد هذه المقاطع الصخرية بثماني عوامات كبيرة وبعض العوامات الصغيرة التي تغطي كامل الكتلة الأرضية وهي تتحرك تحت الأرض فتحدث الزلازل حينما تنزلق حافة عوامة صخرية على حافة العوامة المجاورة كما تحدث البراكين حينما تمر بجوار بعضها البعض وكل منهما في الجهة المخالفة أو إذا ما ذهبت عوامة تحت عوامة أخرى لتتحدا فإن الحرارة الشديدة الناجمة عن هذه الحركة تخلف الحمم البركانية التي تبحث عن مخرج خارج القشرة الأرضية.

يحتمل العلماء أن حركة هذه العوامات كانت نشطة قبل حوالي خمسمائة مليون سنة. والانفصال الكبير بين القارة الأمريكية وبقية الأرض حصلت في حقبات النشاط المذكورة. إذ أن حركة هذه العوامات بطيئة وتحتاج إلى وقت كبير لقطع ما يزيد على ستة آلاف كيلو مترا تمثل عرض المحيط الأطلسي بالتقريب، فإذا كانت الحركة بنفس معدلها الحالي وهو حوالي سنتيمترين يوميا فيكون تاريخ الانفصال قبل حوالي 300 مليون سنة.

وأنا أضيف بأن الماء كان موجودا داخل الكرة وقد خرج قبل بدء تحرك العوامات بزمن طويل. مكان الانفصال القاري كان حارا جدا حيث أن الحرارة هي العامل المؤثر في تشقق هذا الجسم الصلب لتكوين المحيط الأطلنطي. ولهذا السبب فإن كثافة التبخر ساعدت في تكون السحب المحملة بالمياه التي سقطت داخل المحيط الناشئ. هذا المحيط الآخذ في التعرض يوما بعد يوم، كان يستقبل مياه الأمطار وفائض الأنهار حتى امتلأت بالمياه العذبة خلال ملايين السنين. وللعلم فإن نصف مياه الأنهار في كل الأرض تصب في المحيط الأطلسي (الأطلنطي) حتى يومنا هذا.  ولا سيما الحوض الشمالي من المحيط الأطلسي فبقي حوالي مائة مليون سنة محصورا بين أوروبا وأمريكا الشمالية وهو يحتفظ بمياه الأمطار العذبة. فأغلب الظن، أن المقطع الذي يفصل المحيط من شواطئ نيجريا وبينين وتوغو وغانا وساحل العاج كان يسير بصورة محاذية حتى ابتعد تاركا شكل أنف مهيب غرب أفريقيا يضم بالإضافة إلى ما ذكر، كلا من ليبريا وسيراليون وغينيا وغينيا بيساو وغامبيا والسنغال وموريتانيا.

أما المحيط الكبير الذي سمي فيما بعد بالمجيط الهادئ فكان يتقلص يوميا ولكنه مملوء بالماء المالح. وبما أن أكثر المياه المتبخرة كانت تصب في المحيط الجديد فإن ملوحة المحيط الكبير كانت في تزايد أو تأجج مستمر. وجدير بالذكر أن المحيط الهادي يحتوي على معادن كبيرة للملح. قال تعالى في سورة الفرقان: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا (53). وقال سبحانه في سورة فاطر: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12).

لكن الله تعالى خلط البحرين فيما بعد وهو معنى قوله تعالى في سورة الرحمن: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21). حين انفصال القارة الأمريكية عن القارات المحاذية للمحيط الأطلسي أصبحت تشكل البرزخ الفاصل بين المحيطين أو البحرين حتى لا يبغيان على الناس بالحواصب والأعاصير التي تتكون فوق المحيطات الكبيرة. فالأرض كانت فيما مضى عبارة عن محيط كبير من الشمال إلى الجنوب إضافة إلى كتلة واحدة من اليابسة. كان قسم من ذلك البحر الكبير داخلا في جنوب الكرة الأرضية وهو ما يسمى اليوم بالمحيط الهندي. المحيط الهندي في واقعه جزء من المحيط الكبير الفرد ونحن لا ندري بعد فلعل هناك حركة أرضية أخرى كانت في منطقة المحيط الهندي ولكنها لم تُكتشف بعد.

المحيط الوحيد القديم والعريض جدا كان مثيرا للحواصب العاتية الشديدة التي تحول دون تمكن البشر الضعفاء بدنيا من الحياة على الأرض. ذلك لأن الهواء الحار الصادر من المناطق الحارة على طول المحيط يلتقي مع الهواء البارد الصادر من القطب في مناطق متوسطة من المحيط، وبما أن الهواء الحار بطبيعته تتجه نحو السماء فإن تيارا قويا ينتج حول المسارين وهو يتقوى تبعا لعرض المحيط الذي يجمع بدوره مقدارا أكبر من الهواء وهكذا تتشكل الحواصب الشديدة والأعاصير القوية. ونحن نرى اليوم أن حواصب المحيط الهادي تتحول إلى أعاصير قوية ومدمرة ومحرقة أحيانا وذلك لكبر عرض المحيط. تلك الحواصب اليوم تتكاثر في تلاقي الهادي مع الأطلسي قريبا من المحيط المتجمد الجنوبي حيث يكون المحيط الهندي بالقرب أيضا. فماذا لوكان المحيط الفرد القديم موجودا لما نبت زرع ولا تنفس إنسان في الأرض. هكذا يشارك البحران بقية العوامل الطبيعية المؤثرة في استقرار الأرض وصون قابليتها لحياة الإنسان.

ولنلق نظرة على الآيات الأربع التي تذكر قصة البحرين:

  1. قال تعالى في سورة فاطر: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12).
  2. وقال تعالى في سورة الفرقان: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَّحْجُورًا (53).
  3. وقال تعالى في سورة النمل: أَمَّن جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61).
  4. وقال تعالى في سورة الرحمن: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23).

نرى في هذه الآيات الكريمة علامات تهدينا إلى الحقيقة التي ذكرتها وهي:

ألف: هناك حاجز يقطع البحرين وهو حجر محجور يعني مانع قوي شديد المناعة وهو ينطبق على قارة بكاملها كما ذكرت، وهي القارة الأمريكية بالكامل.

ب: يخرج اللؤلؤ والمرجان من البحرين. و اللؤلؤ عبارة عن مقطع من الحيوان البحري المعروف بالصدفة أو المحارة. فإذا خاض حبة رمل أو أي جسم غريب جوف المحارة فإنها تبدأ بغزل نسيج صدفي حول الجسم الغريب حتى يتغطى بالكامل وهكذا تتكون الدرة أو اللؤلؤة. والمرجان هو أيضا حيوان بحري يتكاثر بسرعة لتكون مجموعات منها أسرة مرجانية داخل البحر وذلك بأن تحول كلسيوم البحر إلى حجارة كلسية تحيط بجسمها. ولكنها أحيانا تصنع الحجارة الكلسية بداخلها، حينذاك، تتصلب وتصبح قسما من الجواهر كاللؤلؤ. ويتواجد اللؤلؤ في جنوب المحيط الهادي وفي تفرعات الأطلنطي مثل خليج المكسيك كما يتواجد المرجان الثمين في تفرعات المحيط الهادي مثل بحر اليابان وفي تفرعات المحيط الأطلسي مثل البحر المتوسط.

ج: اللحم الطري إشارة إلى تكاثر الأسماك فيهما والسلمون أشبه شيء باللحم من حيث اللون والبروتينات وهو متوفر بكثرة في المحيطين الكبيرين ولحمه طري ولذيذ.

د: عملية خلط المياه لم تكن سهلة لأن الأمطار في هطول مستمر والحوض الشمالي المحصور من المحيط الأطلسي ليس صغيرا و لا يرتبط بالهادي إلا عن طريق القسم الجنوبي من نفس المحيط الذي هو بدوره كبير جدا ويستقبل قدرا غير قليل من مياه الأمطار العذبة. ولذلك ينسبه الله تعالى إلى نفسه بقوة بقوله تعالى: وهو الذي مرج البحرين.

هـ: أما الآية 61 من سورة النمل فهي تتحدث عن آخر التحولات الجيولوجية الكبيرة في الأرض وهو اليوم الرابع من الأيام الأربعة التي أكمل فيها الله إعداد الأرض لحياة البشر كما أظن. سوف نتحدث عنها في مكان آخر بمشيئة الله تعالى. لكن الحوادث التي حصلت في هذا اليوم عبارة عن خلق الأنهار وتقسيم البحر المائي الكبير إلى محيطين هما الأطلسي والهادي وفصل القارة الأمريكية عن كتلة اليابسة بالإضافة إلى جعل الرواسي. كل ذلك ساهم في خلق الاستقرار والهدوء فوق اليابسة. فالأنهار تشكلت من حركة العوامات الأرضية وخضخضة الأرض وقد عرفنا فصل البحرين وبقي أن نعرف معنى جعل الرواسي في هذا اليوم الذي طال ما لا يقل عن 200 مليون سنة احتمالا.

تطلق كلمة “الجبل” في اللغة العربية على الصخور الضخمة المرتفعة فوق الأرض. ولكن الجبل في الأصل يعني الصلب والقوي المتين. أما الإنجليز فهم يطلقون كلمة Mountain  على ما نسميه نحن العرب بالجبل وهي تعني المرتفع أو مكان الصعود. فالجبل عند العرب باعتبار القوة والصلابة وعند المتحدثين باللغات اللاتينية والفارسية باعتبار الارتفاع. ولذلك فهم لا يسعهم إلا أن يسموا العوامات الأرضية ب(Tectonic Plates) يعني الألواح التي تشكل قشرة الأرض الخارجية. لكن الله لم ير مانعا من أن يسميها الجبال في خطابه الكريم سبحانه وتعالى للعرب ومنهم للبشر جمعاء. ويمكننا القول بأن العالم الأخروي هو إعادة تكوين لنفس العالم الفعلي بحيث يعطيه الله القدرة على البقاء الأبدي في مقابل الأجل المحدود الممنوح للتكوين الفعلي للعالم الذي نحن فيه اليوم Universe.

وقبل أن نخوض في الموضوع قرآنيا، دعنا نتعرف على بقية آثار حركة هذه العوامات. كما قلنا فإن العوامات تحمل كتلة أرضية أو بحرية أو مشتركة من كليهما. فإذا توجهت حافة بحرية من العوامة نحو حافة بحرية من عوامة أخرى فإنها تتحرك تحت العوامة الثانية ببطئ ولكن بقوة ودون توقف فتتجه نحو أسفل العوامة المقابلة لتشكل المرتفعات الجبلية التحتية داخل المحيطات. أما إذا كانت الحافة المقابلة هي حافة أرضية فهي أيضا تتجه بصورة طبيعية إلى أسفل الحافة الأرضية لأن العوامات الأرضية أثخن من العوامات البحرية، وهكذا تبرز الحافة الأرضية وتشكل النتوء الأرضي. وأما إذا كانت الحافتان المتحركتان باتجاه بعضهما أرضيتين فإنها تهشم قسما كبيرا من أعالي الحافتين لتشكل سلاسل الجبال مثل سلسلة جبال هملايا وألبرز والألب. وكذلك جبال مكة المكرمة التي تشكلت حديثا بعد انفصال الدرع العربي عن الدرع النوبي وتشكل البحر الأحمر قبل أقل من بليون سنة. ولا ننس أن انقسام عوامتين أرضيتين -كما حصل حين تشكل القارة الأمريكية- فإنه بالطبع ُيحدث تشققا في الوسط يصل إلى حد رداء الأرض Mantle  فتنبثق الحمم من الرداء لتملئ قاع الخندق الجديد فيتشكل عوامة بحرية جديدة أسفل البحر أو المحيط الناشئ احتمالا.

والله يقول في سورة الكهف: 47 وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47). فتشكل الأرض الأخروي لا يخالف تشكل الأرض الدنيوي واليوم الرابع فيها هو كاليوم الرابع في أرضنا وهو آخر أيام التحولات الجيولوجية ويتلوها الحشر بإذن الله تعالى. فإذا سارت العوامة البحرية نحو العوامة البرية تشكلت النتوء أو البروز الأرضي، لأن حافة العوامة البحرية تتزحلق تحت حافة العوامة البرية. ولا ننس بأن الجبل هنا يعني العوامة باعتبار الصلابة وليس باعتبار الارتفاع كما وضحت، والله العالم.

ويقول تعالى في سورة الرعد:3 وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ َلآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3). لكن العوامات البرية إذا اصطدمت ببعضها البعض فإنها تلتحم وتتعالى الصخور المهشمة طرفي الحافتين لتشكل الجبال العلوية المعروفة. كما أنه تعالى يوضح مسألة تشكل الجبال في آية أخرى بسورة النحل: وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) ليؤكد أن الجبال تشكلت بالإلقاء التي حصلت حين اصطدام الحافتين الأرضيتين وتهشم الصخور من الجانبين واندفاعها نحو الأعلى ثم سقوطها مرة أخرى على جانبي مكان الاصطدام. ولعل تعبير الاصطدام يموه للقارئ الكريم أن التقاء الحافتين كانت فجائية وللحظة واحدة كالانفجار أو اصطدام الأجسام بتأثير السرعة. ولكن هذا الاصطدام تم خلال آلاف السنين حينما كانت حافة تحاول الاستمرار في مسيرتها بقوة الاندفاع الحراري الشديد النابع من الترسبات الصخرية الثخينة التي تغلف مركز الأرض وقد سماها العلماء رداء الأرض Mantle.

والإرساء معناه التثبيت ويتم ذلك بالتحام الصخور مع بعضها وإضافة وزن كبير على حافتي عوامتين لتعيق تحركهما. ويستنتج من هذا الالتحام أو الارساء تدني نسبة نشاط العوامات فتستقر الأرض وتتوقف الاضطرابات والهزات كما هي عليه اليوم بحمد الله تعالى. ونلاحظ في هذه الآيات أن الأنهار تشكلت مع هذه التحركات الجيولوجية. وهو واضح لأن العوامات ليست بحجم واحد ولا بمساحة مشابهة فالفواصل بين صغار العوامات تشكل الخنادق التي تمتلئ بمياه الأمطار فتتكون الأنهار. أما الفواصل بين كبار العوامات فتشكل الخنادق الكبيرة التي تمتلئ قيعانها بالحمم البركانية إلى حد ما فتتكون البحيرات والبحار والمحيطات.

ويؤكد الباري تعالى بأن الرواسي مرتفعة في مقابل الجبال التي قد تكون مرتفعة أو منخفضة وذلك في سورة المرسلات: وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّاء فُرَاتًا (27).  وأما الفرات وهو الماء شديد العذوبة إشارة إلى المياه المعدنية التي تشكلت في فجوات الجبال الشامخات كما أظن. مع أنه تعالى يسمي مياه البحر الأطلنطي قبل اختلاطها، بالعذب الفرات أيضا لخلوها من الأملاح احتمالا.

وآية سورة الرعد الكريمة تشير إلى مسألة أرضية أخرى، حينما يقول تعالى: يغشي الليل النهار. هذا الموضوع مكرر في القرآن وهو تعالى دائما يبدأ بالليل وسنشرحه في مكان آخر بإذن الله تعالى. لكن الجملة في هذه الآية قد تعني ما احتمله الأستاذ الدكتور موريس بوكي الذي فسرها في كتابه الذي يقارن فيه بين الكتاب المقدس والقرآن الكريم. وخلاصة بيانه هو أن حافتي الغازات المحيطة بالأرض (الأوزون) من حيث الاستضاءة بالشمس توهم للناظر من مكان قريب في الفضاء مثل القمر أو حينما يكون الشخص في السفن الفضائية بأن الظلام يحاول الدخول في النور والحافة الأخرى توهمه بأن النور يحاول الدخول في الظلام. فالشمس تسطع وتنير نصف الكرة الأرضية ولكن هذه الكرة هي التي تدور حول نفسها مع ما يحيط بها من الغازات التي تشع تحت نور الشمس. ويمكن أن نفسرها بأن الأوزون هو غشاء يقلص نور الشمس كما يحد من إشعاعاتها ولذلك يمكن أن يكون المقصود من هذه الآية بأن غاز الأوزون وهو المقصود بالليل يغشي نور الشمس وهو المقصود بالنهار والعلم عند الله. لكن الجملة المشابهة والمكررة أربع مرات وهي (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل) فهي ليست بهذا المعنى كما أظن.

ونحتمل تأثير هذه التحركات الأرضية في تشكل طبقة الأوزون فتكون الطبقة قد تشكلت مع خلق الجبال العلوية قبل حوالي ثلاثمائة إلى ستمائة مليون سنة والله العالم.

أما ما نقرأه في سورة الحجر: وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ (19) فهي بالطبع ليست إشارة إلى أن النباتات بدأت بالظهور مع تحرك العوامات، فتاريخ النبات قديم جدا. العصر النباتي الأول مشار إليه في سورة الأعلى وبتفصيل أكبر في سورة الأنعام. فلعل هذه الآية تتحدث عن النبات الموزون من الحبوب والفواكه والثمار والورود التي تنمو في الأجواء الرطبة والمعتدلة وتحتاج في إنباتها بكميات كبيرة إلى التسميد والإخصاب. هذه الشروط المناخية الطيبة لم تكن متوفرة في الكرة قبل التحرك الجيولوجي الأخير وتشكل الجبال ذوات الهضبات والأنهار واستقرار الكرة وتشكل الأوزون. ويوضح تعالى ذلك في سورة ق: وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7). كما يشير إليه أيضا في سورة لقمان: خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10). فأضاف تعالى تكميل خلق الدواب في هذه الحقبة من تاريخ الكرة. والله نسأل أن يعصمنا من الزلل والخطأ.

ولعل قائلا يقول: كيف أضاف الله تعالى مسألة سير الجبال في بداية  سورة التكوير: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7). على أن تكوير الشمس وموت  النجوم أو تكويرها لا ترتبط بتسيير الجبال، إلا إذا فسرنا تسيير الجبال بمعنى تحرك الجبال الفعلية نحو مصيرها المحتوم وهو الدك و الانهدام. والواقع أن الحوادث المذكورة في مقدمة هذه السورة الكريمة متتالية ولكنها متباعدة جدا من حيث الزمان. لعل الله الكريم يوفقنا لدراسة خلق الكون في المستقبل والتعمق في مجموعة الحوادث الكونية التي تسبق يوم الحساب، إلا أنني أظن بأن تسيير الجبال هنا هو نفس التسيير الذي ذكرته ولكنه إلى الوراء لإعادة تشكيل اليابسة الضخمة القديمة والمحيط الواحد كما كانا قبل الانفصال. إن علماء الجيولوجيا يحتملون هذا التراجع أيضا وهو يؤيد ما ظننته والعلم عند الله.

فإذا استعادت الأرض تقسيمها المنصرم فإن الحياة تتعذر حتى على الوحوش الفعلية ولذلك فهم ينقرضون والحشر يعني الانقراض. والحيوان الذي يبقى ويسود دون خوف آنذاك هو الجمل. فلا إنسان ليستعمله ولا وحشا ليتغذى عليه. حتى النوق الحوامل يبقين معطلات مسرحات دون وجل. يبقى الأرض لهم دوننا ودون الحيوانات المفترسة التي لا يمكن لها العيش في ذلك الجو الخانق. واحتمال بداية وجود الجمل يصل إلى 54 مليون سنة فلعله أقدم الدواب الفعلية. وهكذا فما عاش قبل 50 مليون عاما يمكنه أن يعيش بعد موتنا وموت مواشينا ووحوشنا أيضا.

وأما تسجير البحار فهي في النشأة الثانية. هناك أيضا ستكون انفجار كوني وسوف تتشكل بحر عظيم من السوائل الكيماوية شديدة الحرارة كما نحتمل حصولها عند الانفجار الأول. هناك تتشكل النجوم من جديد وبعدها بمئات الملايين من السنين يتم منح الإنسان الجديد بدنا جديدا. وهذا معنى تزاوج النفوس فهو ليس بمعنى الزواج كما توهمه المفسرون القدامى رحمهم الله جميعا. بل هو يعني جعل النفس الفريدة والتي عاشت بلا بدن في فترة البرزخ، جعلها زوجية باقترانها بالأبدان الجديدة. هي مسألة عامة لكل البشر. هذا ما بدا لي في هذا  الشأن والعلم عند الواحد الأحد وأنا كما قلت أرحب بمن يصحح أخطائي. والحمد لله أولا وآخرا.

أحمد المُهري

18/12/2016

الأصل كتبته ونشرته في 26/2/2001

#تطويرالفقهالاسلامي

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.