99.99% لا تكفي

تسعة وتسعون, فاصل تسعة وتسعون, من مائة في المائة لا تكفي
number.jpg
يذكر الكثير منا, بلا شك, تلك الانتخابات والاستفتاءات “الجميلة” التي كانت تقام في عهد الزعيم الخالد جمال عبد الناصر, والزعيم المؤمن أنور السادات, والتي كانت نتيجتها – المعلومة مسبقًا – 99.99%.  حقيقة الأمر, ما زلت أذكر كيف أصدرت مصلحة البريد المصرية طابع بريد مكتوب عليه “نعم 99.99%”.  كان هناك شعور بالحزن على المأساة التي كنا نعيشها, وشعور بالضحك على المهزلة التي كنا نعيشها.  99.99% يا خلق الله؟
يعلم كل من يعمل في حقل العلوم الإنسانية أن فكرة وجود “نظرية” أو “فرضية” تفسر 99.99% من الظاهرة – أي ظاهرة – هي فكرة خيالية.  سواء كنا نتحدث عن ظواهر اجتماعية, أو نفسية, أو لغوية, فلا توجد نظرية تفسر 99.99% من الحالات.  في حالة علم النفس, مثلا, نسبة خمسين في المائة زائد واحد تعتبر نسبة محترمة.  في حالة علم اللغة كذلك نفس النسبة.  إلى آخر ما هنالك من علوم إنسانية.  المهم أنه لا توجد ظاهرة إنسانية منتظمة تصل نسبة انتظامها إلى 99.99%.   باختصار, موضوع 99.99% هذا لا وجود له نهائيًا في العلوم الإنسانية. 
العجيب أن موضوع 99.99% هذا لا وجود له في العلوم الطبيعية هي الأخرى.  مثال على ذلك الماء يغلي عند درجة حرارة مائة سلسيوس عند مستوى سطح البحر.  100%.  أنَّى ذهبت على سطح الكرة الأرضية, وسخنت الماء عند مستوى سطح البحر فسوف يغلي عند درجة حرارة 100 سلسيوس.  100%.  أنَّى ذهبت على سطح الكرة الأرضية وقمت بتبريد الماء إلى درجة حرارة صفر سلسيوس فسوف يتجمد سواء كنت عند مستوى سطح البحر, أو فوق مستوى سطح البحر, أو تحت مستوى سطح البحر.  مرة أخرى, 100%.  ينطبق هذا الكلام على أي ظاهرة مادية أخرى, سواء كنا نتحدث في الكيمياء, أم الفيزياء, أم الأحياء.  ما ينطبق على ورقة برسيم واحدة, ينطبق على كل أوراق البرسيم.  كله 100%.  
يعني هذا الكلام أنه في العلوم الطبيعية لا توجد 99.99%, كما أنه في العلوم الإنسانية لا توجد 99.99% كذلك.  هذا هو السبب في أن علماء العلوم الإنسانية أكثر تواضعا بكثير من علماء العلوم الطبيعية.  نحن نعلم دائما أننا لا نفسر “كل” الظاهرة, ولا حتى “معظم” الظاهرة, وإنما – إذا وفقنا الله – أكثرية الظاهرة.  نحن نعلم كذلك أن احتمال الخطأ وارد باستمرار.  حقيقة الأمر, بالنسبة لي أنا شخصيا, فإذا كنت قد تعلمت شيئا من العلوم الإنسانية التي درستها  في حياتي فهو ضرورة أن أكون مستعدًا باستمرار لتقبل خطأ ما أتحدث عنه.  لا يمكن لعالم في العلوم الإنسانية أن يكون متأكدًا “تماما” من صحة ما يتحدث عنه.  80% ممكن.  90% مبالغة.  99% دخلنا في الدجل.  99.99% خرجنا من العلم. 
لا ينطبق هذا الكلام على “العلم” وحسب, وإنما ينطبق على كل جزء من حياتنا.  هل يمكنك أن تخبرني بشيء تعرفه عن حياتك ومتأكد من صحته 100%.  نحن لا نعرف حتى أنفسنا.  كثيرًا ما أفاجأ بأشياء أفعلها لم أكن أعتقد أن من الممكن أن أفعلها.  كثيرًا ما يفاجئني أبنائي بأشياء يفعلونها لم أكن أتوقعها إطلاقا.  أخطاء لم أكن أتصور أن يقعوا فيها.  لمحات من العبقرية لم أكن أحلم بأن يكونوا عليها.  حقيقة الأمر, كل يوم يحمل لنا مفاجئات جديدة, قد ننتبه لها, أو قد لا ننتبه لها, إلا أنها دائما ما تحدث لنا.  مرة أخرى, إذا كنت قد تعلمت شيئا في حياتي فهو ألا أكون متأكدًا 99.99% من أي شيء في حياتي.  باستثناء أشياء بسيطة. 
أشياء ترقى إلى مستوى الإيمان.  أشياء لا أستطيع الاستمرار في حياتي إذا كان هناك شك فيها بنسبة 0.000001%.  ولا واحد في المليون.  لا أستطيع الاستمرار في حياتي إذا كان لدي شك واحد في المليون في حب أسرتي لي.  تخيل ما يمكن أن تكون عليه حياتك إذا كنت لا تثق في زوجتك 100%.  تخيل لو كنت لا تثق في حب أبنائك لك 100%.  تخيل حجم المعاناة التي سوف تجد نفسك فيها لو كانت لديك ذرة من الشك فيما إذا كان أبناؤك هم أبناءك فعلا.  تخيل لو أنك سألت زوجتك – بعد عشرة امتدت عشرات الأعوام – ما إذا كانت قد “أخلصت” لك عبر هذه السنوات أم أن في الأمر شيئا, وجاءتك إجابتها أنها عند النظر إلى كل هذه السنين, وكل هذا العمر, فإنها تستطيع أن تقول لك, بكل صدق, إنها كانت مخلصة لك بما لا يقل عن 99.99% من الحالات.  تسعة وتسعون, فاصل تسعة وتسعون, من مائة في المائة لا تكفي.  هناك حالات تحتاج إلى مائة في المائة. 
حقيقة الأمر, لا تنطبق نسبة مائة في المائة على أجزاء من حياتنا الشخصية وحسب, بل تنطبق على أجزاء من حياتنا العملية أيضا.  حدث في أواخر القرن الماضي أن قام أحد العاملين في إحدى شركات الأدوية الأمريكية بوضع سم يكفي لقتل إنسان في إحدى علب الأدوية التي تنتجها الشركة, وأرسل خطابا إلى الشركة يطلب منها مليون دولار – أو عشرة مليون, لا أذكر – مقابل تزويد الشركة برقم الشحنة التي وضع فيها السم.  نظرت الشركة في عدد الشحنات التي تم إنتاجها واتضح أنها أنتجت حوالي عشرة مليون علبة.  أي أن نسبة المخاطرة لا تتعدى 1 إلى عشرة مليون.  كان على الشركة أن تدفع “الفِردة”, أو أن تقبل المخاطرة (واحد إلى عشرة مليون) أو أن تسحب الدواء من السوق.  قامت الشركة بسحب الدواء من السوق.  نسبة الأمان المطلوبة في صناعة الأدوية هي 100%. 99.9999999% لا تكفي.
هناك في حياتنا أشياء لا بد أن نكون متأكدين منها بنسبة 100% وذلك حتى نستطيع أن نعيش.  حب أسرتنا لنا. حب الله لنا ورحمته بنا.  أن محمدًا بن عبد الله هو رسول الله إلينا.  أن القرآن هو كلام الله لنا.  أن المصحف يضم بين دفتيه كل كلمة قالها الله لرسوله ولا يضم كلمة واحدة لم يقلها الله لرسوله.
تخيل!  لو جاءتك رسالة من شخص يخبرك بأن لديه دليلا لا شك في صحته على أن هناك آية “مدسوسة” في القرآن لم يقلها الله لرسوله وأنه على استعداد لتزويدك بهذا الدليل لو دفعت له مبلغا من المال.  تخيل ماذا يمكن أن يحدث لك إذا صدقته.  إذا لم تدفع “الفردة” فقد أفسد عليك إيمانك بالقرآن الكريم, إذ ما أدراك ما إذا كانت الآية التي تقرأها الآن هي الآية “المدسوسة”.  وإذا دفعت “الفردة”, فما أدراك أنه لا يخبئ لديه آيات “مدسوسة” أخرى.  لو كنت أنا في هذا الموقف لما التفت إلى هذه الرسالة للحظة.  لأني “أومن” بأن المصحف يضم بين دفتيه كل كلمة قالها الله لرسوله, ولا يضم كلمة واحدة لم يقلها الله لرسوله.  هذا ما أومن به.  وهو إيمان أعمى, وأصم, لا شم فيه, ولا ذوق, ولا إحساس.  لا يوجد “منفذ” هنا للشك.  كيف يمكنك أن تؤمن “ببعضه” ولا تؤمن “ببعضه”؟
أعتقد أن ما أريد أن أقوله في هذه الرسالة هو أن القول بأن هناك “بضع” أحاديث “مدسوسة” هو قول يضع “كل الأحاديث” موضع الشك.  كيف, بالله عليك, “تؤمن” بأحاديث يخبرك واحد منها بأن رسول الله كان يلقِّط رزقه عن طريق قتل خلق الله؟  ما هذا الحديث عن هذا “العلم” الوفير, الخطير, العظيم, الكبير الذي أفنى أعظم رجال في العالم حياتهم من أجل فصل “المدسوس” فيه عن الصحيح عن الصحيح منه.  أولئك الرجال العظام الذين سجل لهم التاريخ أنهم “ألفوا” أصح كتاب بعد كتاب الله سبحانه وتعالى, وأصح كتاب بعد أصح كتاب بعد كتاب الله سبحانه وتعالى.  رسول الله يعتاش على قتل الناس؟  وأين جاء “الخبر”؟  في أصح كتاب بعد كتاب الله.  رسول الله يقدم للناس عرضًا ملخصه إما أن تؤمن بأني رسول الله, أو تدفع “الفردة”, أو تموت؟  وأين جاء الخبر؟  في أصح كتاب بعد كتاب الله.  أي “إيمان” هذا يا خلق الله؟  تخيل لو ملك الهندوس العالم وجاء وفد هندوسي وأخبرونا بأن علينا أن نؤمن براما كريشنا فيدا أو ندفع الفردة, أو نموت.  هل تتخيل أن ذلك البعض منا الذي سيدخل في دين راما كريشنا “يؤمن” فعلا براما كريشنا؟  هل هذا إيمان؟  هل هذه هي الطريقة التي آمن بها خلق الله برسالة رسول الله؟  وكل هذا في أصح كتاب بعد كتاب الله؟  هل هذا إيمان؟  هل يقول مؤمن بهذا؟  هل هذا هو ما حدث فعلا؟  بمنتهى الوضوح:  هل كان رسول الله يعتاش على قتل الناس ونهب أموالهم؟  هل كان رسول الله يخير الناس بين “الإيمان”, أو “الدفع”, أو “القتل”؟   هل يمكن أن نتحدث عن رجال عظام أفنوا حياتهم في فصل “الصحيح” عن “المدسوس” ونجحوا في ذلك؟  كيف نجحوا؟  كيف “أفلت” “حديث السيف”, أو “حديث الرمح” عن كل هؤلاء العظام؟  من الذي دسه, وكيف دسه, وكيف اختفى ولم يرًه أحد حتى جاء “مركز تطوير الفقه السني” وفضح ستره بعد ألف عام من الاختباء في أصح كتاب بعد كتاب الله سبحانه وتعالى؟ 
أرسل إلينا الأخ العزيز, والمفكر الإسلامي الكبير, الدكتور مدحت غانم هذه الرسالة التي يحدثنا فيها عن الجهد الكبير الذي بذله علماء الحديث حتى تصلنا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة, صافية, بعد أن قام هؤلاء الأئمة العظام بتصفيتها على أكمل وجه.  يقول سيادته:
“إن علم الكلام جدل لا ينتهي بصاحبه إلا إلى الضلال, وحديثكم يدور حول رفض قبول الحديث بحجة أنه من نقل البشر, ولكي نختصر الكلام في حسم هذا الموضوع أود الإشارة إلى أن علوم البشر منذ أن خلق الله آدم إنما هي علوم تراكمية تتطور جيلا بعد جيل فيستفيد كل جيل من تجارب الجيل الذي قبله, وعلى سبيل المثال فالسيارة بدأت بعربة يجرها البهائم, والطائرة بدأت بجناحين صنعهما رجل ليطير بهما, وهكذا, أما علوم الدين فلها شأن آخر لكونها لم تبدأ بصنع البشر وإنما بدأت برسالة أنبياء هداهم الله إليه وأوحى إليهم بالدعوة إلى توحيد الله وعبادته دون غيره من البشر, وأخذت الرسالات في التطور بتطور البشر وانتشارهم حتى بلغت ذروتها ببعثة نبي الإسلام الذي جاء للناس بالخير كله و هداهم إلى الصراط المستقيم فنقل أصحاب النبي كل ما تعلموه من أفعال النبي وأقواله وأفعاله ووصفوا لنا حياته كاملة خارج بيته بينما وصفت زوجات النبي لنا حياته داخل بيته صلى الله عليه وسلم ونقل ذلك التراث العظيم لنا أصحاب النبي  المخلصين المشهور عنهم الصدق وألامانة والعلم ونقل عنهم جيل التابعين فكان الحديث المتواتر أي المنقول من عدد كبيرمن الصحابة إلى عدد كبيرمن التابعين يستحيل فيه الكذب على النبي لأنه من جمع كبير سمعوه إلى جمع كبير نقلوه بنغس اللفظ فكان الحديث المتواتر من أعلى درجات الحديث, ثم تحرى علماء الحديث صحة النقل على مر العصور من خلال ابتكار علوم توثيقية عرفت بعلوم الحديث  هدفها تخريج الحديث الصحيح بالتأكد من رواته من الصحابة و التابعين المشهود لهم بالصدق والامانة والسيرة العطرة فاستطاع علماء الحديث تصفية الصحيح من الحديث فيما لا يزيد عن خمسة آلاف حديث من بين مئات الآلاف من الأحاديث, وهذا يعني أن لدينا صفوة من الحديث لا أقول بصحتها مائة بالمائة وإنما أقول أنه أصح ما ورد لنا من ذلك التراث, وإذا راجعناها مع القرآن لوجدنا أن خمسة وتسعين بالمائة منها لا يختلف مع القرآن بينما حوالي خمسة بالمائة قد يختلف حقيقة أو ظاهريا مع القرآن فكان الفقهاء على مر العصور يحاولون فهم تلك الأحاديث المختلفة بطرق متعددة منها ما ذهب لتكذيبها مطلقا ومنهم من ذهب إلى التوفيق بينها وبين الآيات بأدلة وبراهين. وباختصار أود أن أرسل رسالة مخلصة إلى كل أعضاء هذا المركز: تعلموا القرآن, والسنة, وعلوم الحديث, ولا تسفهوها, وادرسوا ذلك التراث دراسة منهجية وسوف تعلمون حينذاك الحق من الباطل.  صححوا مسيرتكم ولا تضيعوا أوقاتكم بعرض ذلك التراث على أهوائكم القاصرة لتقبلوا منه ما يتفق معكم.  ذلك هو اتباع الهوى الذي أهلك من كان قبلكم.”  انتهى كلام سيادته.
خالص الشكر لسيادة الدكتور مدحت غانم على كريم رسالته.
1 يناير 2013
#تطوير_الفقه_الاسلامي
https://www.facebook.com/pg/Islamijurisprudence

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.