تصحيح أخطائنا التراثية 14: الشفاعة، القسم الأول:

بسم الله الرحمن الرحيم

تصحيح أخطائنا التراثية

: الشفاعة، القسم الأول:

quaran2
Holy koran

{قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم} الزمر: 13

الله تعالى هو خالق الكون وهو سيد الكون، هو خالق الخلق وهو سيد الخلق أجمعين. الدين كله لله ولقد استخلفنا في الأرض ليختبرنا ويختبر نفوسنا لمدة قصيرة ثم يسلب منا أمانته ويتوفانا ويعيدنا إلى عبوديته الطبيعية لخالق ما في الوجود سبحانه وتعالى. إنه هو عالم بكل شيء وهو أرحم الراحمين، فلا أحد يعلم أكثر منه سبحانه ولا أحد يرحم أكثر منه سبحانه. إذن لا معنى لتوسط أحد بيننا وبين خالقنا العظيم عز اسمه.

الشفاعة أو الوساطة التي يصرح بها القرآن الكريم هي وساطة التنفيذ فحسب، وهي بيد الروح القدس و الملائكة وحدهم دون غيرهم بعد الموت حتى قيام الساعة وتفريق المؤمنين من الكافرين والاستقرار في الموقع المناسب لكل نفس، استقرارا أبديا لا مهرب منه. أما في النشأة الدنيوية التي نعيشها فإن مهمات الأمور بيدهم أيضا، إلا أن هناك وسطاء بشريين يمارسون بعض الأعمال المؤثرة في الناس مثل الهداية التعليمية التي يمارسها الأنبياء وعمارة المباني التي يمارسها المهندسون والعمال والخدم وعمال المصارف وموظفو البلديات.

فإذا غاب المرسلون أو ماتوا عاد الأمر إلى الناس العاديين أنفسهم فمن يعلم أنذر من لا يعلم، و من أدرك هول عذاب الله خوّف الآخرين، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ثم إن لله في خلقه شأنا آخر يوم القسط الأكبر وقد ظننته وبينته في بدايات “المفاهيم الصحيحة” تحت عنوان: الشهيد والشاهد في التنزيل وكذلك تساؤلات حول الشهيد والشاهد.

وليس هناك دافع علمي لرد مسألة الشفاعة المعروفة بين الناس فهي غير موجودة في صلب الدين ولكن الجهل المتفشي الذي حل محل العلم في أذهان العامة من الناس، يفرض علينا أن نتصدى لهذه البدعة الدخيلة لنثبت خطأها، فلا يعول عليها العصاة المتمردون للنجاة من النار. وبالطبع فإننا نقصد المسلمين من الناس، ذلك لأن المسيحيين قد انخرطوا في ضلال شيطاني بعيد، لا يُرجى معه تحكيم الفكر والعقل. إنهم يكتفون بحب المسيح وبالاعتراف بالذنب أمام الكاهن ويتوهمون إرضاء الله سبحانه وتعالى!!

أما المسلمون فإنهم يأتون ببعض العبادات ولكنهم يعولون على الشفاعة في كسب الرضوان. إنهم يقيمون بعض القرابين لله تعالى وخاصة يوم عيد الأضحى فهم إلى النجاة أقرب من غيرهم. أما الغير فهم على الغالب يعولون تماما على الخلق ويعتبرونهم أقرب إليهم من الله تعالى.

والطامة الكبرى أن بعض المسلمين أيضا يظنون أن اليد البشرية قاصرة للوصول إلى من هو أقرب إليهم من حبل الوريد فعليهم التشبث بالذين هم عبيد مقربون إلى الله تعالى وقد سبق بشأنهم حكم الجبار فهم ليسوا فقط أصحاب الجنة بل بيدهم مفاتيح الدخول فيها. ألا ليتهم يبحثوا في كتاب الله عن أي موجود حي عند نزول الوحي وقد بشره الله بالجنة بمن فيهم نبينا المصطفى. بل يأمره سبحانه أن يقول للناس {قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم، إن أتبع إلا ما يُوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين} الأحقاف: 9.

هو عليه السلام ميت الآن ولا حول له ولا قوة ولا إرادة كغيره من الناس، ولو كان شاذا عنهم لذكره الله تعالى في القرآن الكريم. إنه بشر يصيبه التعب والعنت ويتألم من أن يمسه هو أو أهله السوء. فقد أدى ما عليه من واجب ومن حقه أن يرتاح بعد الموت. حتى يتكامل لقاؤه مع ربه فيعود مع بقية الناس إلى الأرض الجديدة منتظرا حكم الله تعالى فيه وفي أتباعه ومخالفيه. الزمر: 30و31 {إنك ميت وإنهم ميتون   ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون} لم يقل الله بأنك ميت غير بقية الموتى أو أنت حي حتى بعد موتك، ترى أمتك وتتوسط بينهم وبيني؛ معاذ الله.

هناك من يستشهد بالآية 169 من سورة آل عمران {ولا تحسبن الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يُرزقون} يريد المستشهد أن يُبرهن على الحياة البرزخية بعد الموت، وهو حق وصحيح. فكل الناس أحياء عند ربهم بعد الموت. أما الذين قُتلوا في سبيل الله منهم فهم يُرزقون الأمان وعدم الخوف بعد الموت. آل عمران : 170 و 171 {فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون   يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يُضيع أجر المحسنين}.

الحياة عند الله لا تعني الارتباط بعالم الدنيا وممارسة الوساطة بين الناس وربهم. إنها نوع من الحياة النفسية التي لا يمكنها الارتباط بالنفوس المحاطة بالبدن بتاتا. إنهم يُريدون أن يُخبروا إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم بما من الله عليهم من نعمة السلام وبأن الله سوف لا يضيع أجرهم يوم القيامة ولكنهم غير قادرين على ذلك لانقطاع الاتصال بأهل الدنيا. ولذلك فهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم بأنهم ارتاحوا من عناء الدنيا ودخلوا نعيم السلام الإلهي البهيج. يعيش المؤمنون في جنة الرضوان بعد الموت بانتظار عودتهم إلى أبدانهم الأخروية والاستمتاع بجنات النعيم أيضا.

ولو لا أن يبقى الإنسان بحقيقته حيا بعد الموت فمن الذي يبعثه الله يوم القيامة؟! لو أنه تعالى يخلق مخلوقا مثلي فهو غيري ولو أنه نسخة مني ببدنه وبكودات جيناته. لكن الإنسان بحقيقته غير ميت أبدا إلا أن يشاء الله غير ذلك. هو بحقيقته يخرج من البدن الذي أوجده الله فيه ليبقى نفسا دون بدن حتى قيام الساعة. فهو نفس مجردة عن المادة وهو أقرب إلى الله منه حينما كان محاطا بالمادة الدنيوية التي تسمى بدن الإنسان.

والنبي الأمين عليه السلام في حياته كان أضعف من أن يغير حال الناس أو أحوال نفسه بل عليه أن يبين لهم ضعفه أيضا. الأعراف: 188 {قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لا استكثرت من الخير وما مسني السوء، إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون}

تعريف مختصر:

الشفاعة (والعلم عند الله) عبارة عن الوساطة التنفيذية بين خالق الكون وخلقه بالضرورة. فعامة الخلق غير قادرين على استلام النور أو الطاقة الربوبية وغير مؤهلين للتكيف معها، أما الملائكة فهم إما مباشرة أو بواسطة الروح الأمين يتسلمون الأوامر والأنوار الخالقية من الله فيبسطونها على الخلق أو ينقلونها إن كانت أوامر تشريعية إلى الأنبياء لإيصاله إلى الخلائق، أو يبعثون بها إلى النفوس المعنية بشرا أو جنا أو حيوانا أو غير ذات نفس. هذا ما يُستفاد من كتاب الله تعالى ولعل الملائكة يمثلون أدوارا أخرى غير معروفة لنا. والأنبياء شفعاء هداية وتعليم بين الله و من حولهم من خلقه. إنهم يتسلمون الأوامر مباشرة من الله أو عن طريق الروح أو الملائكة ويبلغونها إيانا فهم أيضا شفعاء بهذا المعنى.

وأما الشفاعة بمعنى الوساطة التشريفية أو التكريمية التي نراها بين الخلائق أنفسهم فهي عبارة عن وساطة شخص بين ذي قدرة فاعلية وبين ضعيف ينتظر وقوع الفعل عليه لرفع العقوبة أو لاستلام المكرمة. هذه الوساطة تكون لسببين:

أولاهما)

أن يكون الوسيط أقرب إلى الفاعل سنا أو فضلا أو مالا أو علما أو مهنة وزمالة وما شابهها، كما يكون أقرب إلى محط الفعل وموضعه في إحدى الصفات المذكورة. يقوم الوسيط بالتقرب إلى الحاكم أو القاضي أو المالك أو الرئيس أو رب العمل لصالح قريبه فيرفع العقوبة أو يحقق الجائزة إكراما لما يتمتع به من صفات لدى ذات النفوذ والقوة. هذه الوساطة غير واردة بتاتا بين الخالق وأي من خلقه لأن كل الخلق يتمتعون بنفس العلاقة مع الله وهي علاقة العبد بمولاه إن كان مؤمنا أو علاقة العبد بربه بصورة عامة. كما أن المولى أو الرب هو أقرب موجود إلى العبد باعتباره مالكا حقيقيا له. إن صلة العبد بالعبد أقل بكثير من صلة المالك الحقيقي بالعبد، إذ أن كل عبد جزء من ممتلكات المعبود وليس العبد جزءا من ممتلكات عبد آخر.

لو فرضنا وجود هذه الصلة بين الخلق أنفسهم لوجب على الخلق أن يتقربوا إلى الواسطة كما يتقربون إلى الله لعلهم يعينوهم بالوساطة بينهم وبين الله. هكذا ينفصم الوثاق بين الله وعبيده ويشرك العبيد في عبادة الله بالتوجه إلى عبيده أيضا. والمفروض أن نقيم وجوهنا عند كل مسجد إلى الله وحده لا إلى خلقه. يجب علينا أن نكتفي بالله فهو حسبنا لأنه كامل القدرة، كامل الرحمة، كامل الربوبية.

وثانيهما)

أن يكون الوسيط على علم أكثر من صاحب الكلمة والسلطة بالنسبة لمن سيقع عليه الفعل، تبعا لطبيعة الخلق المتصفين بالنقص في الرؤية والعلم والحكمة والاتزان. إن حاجة القضاء إلى الشهود هي من هذا الباب والشهود وسطاء بين الحاكم والمحكوم لبيان القضية والشهادة التي تزيد الحاكم علما بالأمر. هذا النوع من الوساطة مرفوض تماما بالنسبة لمن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فهو أقرب إلى خلقه من حبل الوريد، ولا يمكن لأحد أن يزيد الخالق سبحانه علما بأحوال المخلوق. إن من الملائكة من هم وسطاء شهادة وكتابة ولكنهم في النهاية يمثلون دورا تنفيذيا للتسجيل ولإكمال الحجة على الناس فحسب.

إن الله سبحانه وتعالى من ورائهم محيط بكل شيء، عالم بما يمكن أن يخفى على ملائكته وشاهد عليهم وعلى الناس. والحكم النهائي يوم القيامة لله وحده ليس فقط من باب الاستعلاء بل باعتباره العالم الحقيقي بكل حيثيات القضايا وكل نفسيات الفاعلين والمحيط بكل ملابساتها وجزئياتها وأركانها. فلا يمكن تصور مثل هذا التوسط بين الله وعبيده المملوكين له وحده. إن تصور هذه الوساطة كفر بالله وتنقيص لشأنه وحط من علمه وحكمته. معاذ الله.

إن الله تبارك وتعالى هو وحده العليم الخبير وهو وحده أرحم الراحمين فلا معنى لتوسط أحد بينه وبين خلقه. أما مسألة التكريم الذي ينادي به بعض العلماء الأفاضل فهو باطل بدليل عدم وجود كرامة في مقابل كرامة الله نفسه. إن مرد الجميع هو إثبات فضل لبعض الخلق في مقابل فضل الله على خلقه. إنهم – من دون قصد- يدعون إلى غير الله سبحانه وهي دعوة غير مشروعة. إن عليهم أن يدعوا إلى الله وحده وأن يطلبوا من الناس الامتثال لأوامر الله وحده والالتجاء إليه وحده وطلب الرحمة منه وحده. إذا كان فلان مخلوقا مؤمنا أو عبدا صالحا فهو غير مؤهل لأن يستجير به المؤمنون أو يطلبوا شفاعته بينهم وبين ربهم الذي هو أرحم من هؤلاء العبيد الصالحين إلى الناس.

خلق الله الخلق لنفسه وإكراما لذاته المقدسة ولم يخلقهم لأجل أحد ولا إكراما لعبد مهما كان ذلك العبد صالحا وطيبا فهو وبقية الخلق في درجة واحدة من العبودية. خلقنا جميعا من الأرض وأخرجنا جميعا من أرحام الأمهات! ثم يحشرنا إليه جميعا. كل الأنبياء رأوا الطفولة والصبا ثم آتاهم الله العلم والحكمة بعد ما بلغوا أشدهم ثم ماتوا. إن كل اصطفاء رباني تضاعف من تعرض الفرد للدقة في الاختبار، وكل الناس يمرون على الاختبار حتى يستحقوا الجنة أو النار. اللهم إلا الذين يموتون أطفالا فلله فيهم شأن آخر. هذه الأرض هي المكان التي نعيش فيها، نحيا ونموت وقد وضعها الله تعالى للأنام جميعا، كما خلق لنا ما في الأرض جميعا.

إن بعض الفضلاء يتوهمون أن اصطفاء الله لأحد مكرمة تبلغ بصاحبه الفضيلة حتى في يوم الحساب والله قد اصطفى بني إسرائيل علينا جميعا، فهل هم من أهل كرامة الله؟ إنهم يستشهدون أحيانا بما أكرم الله به المسيح في ولادته أو أكرم به موسى وذكره بذلك بقوله تعالى: واصطنعتك لنفسي. كل هذه المكرمات هي من ضروريات الحياة والاختبار في هذه الدنيا وباختصار أرد عليهم جميعا بأن  الله قد أكرم آدم أكثر من بقية الناس جميعا فألزم الملائكة ليسجدوا لخلق آدم، فكأنه سبحانه يقول لهم: خلقتكم لأجل هذا الموجود. ثم عصى آدم ربه في عدم الانصياع لأمر الله فطرده الله من مكرمته الخاصة. وقال عنه أنه غوى و أنه لم يجد له عزما.

ولم يذكر الله لآدم أية رسالة أو نبوة وهو ليس نبيا فعلا. إنه لما يستحق النبوة ولما يستحق أن يخصه الله تعالى بالوساطة التشريعية بينه وبين خلقه من أولاد آدم ومن الجان. لقد خالف أمرا مولويا صريحا بدون أن يكون لديه دافع غضب أو شهوة أو حاجة ملحة. لقد فعل ذلك لمجرد حب الاستطلاع مع سبق الإصرار مطيعا بذلك عدوه الشيطان فاستحق الغضب، إلا أن الرحيم الغفور عفا عنه فيما بعد وتاب عليه بعد أن اختبره اختبارا آخر لأنه أرحم الراحمين. وهو أهل لأن يعفو عن كثير منا أخطاءنا وظلمنا لأنفسنا. وقد حققت في موضوع الشفاعة بالتفصيل تحت العنوان التالي:

حقيقة الشفاعة

وقبل أن نقص حكاية الشفاعة، كان يجب علينا أن:-

1)              نعرف معنى الشرك بدقة، لنعرف وجوه الشرك ثم نُعرّف الآخرين بكل ذلك.

2)              لماذا خلق الله الإنسان، ولماذا أنشأ النشأة الأولى؟

3)              هل هناك لدى الله العزيز الحكيم أكرم وأعز من نفسه جل جلاله، وهل يُعقل غير ذلك؟

4)     ما معنى يوم الحساب، وكيف يقضي الله تعالى بين الجنة وبين الناس وبين الملإ الأعلى من الملائكة والأرواح القدسية وحملة العرش؟

5)     هل هناك سيد للخلق وسيد للبشر أو مولى للمؤمنين غير الله تعالى؟ وأين هذا الذي يشارك الله في سيادته على عبيده، وأين موقعه من الحياة إن وجد؟

6)              هل هناك أحد أقرب إلينا من الله تعالى نفسه؟

7)              هل الله تعالى بحاجة إلى مزيد من العلم عنا وعن أحوالنا وأعمالنا؟

8)     لماذا يرفع الله الأنساب بين الناس بعد الموت، فلا أب ولا ابن ولا زوج ولا زوجة ولا رئيس ولا مرؤوس ولا رسول ولا من أرسل إليهم ولا فرق بين الأولين والآخرين الذين سوف يجتمعون جميعا تحت سقف واحد ليستمعوا إلى قضاء الله تعالى وليس لأحد منهم أن يتحدث بشيء إلا همسا؟

9)     أليس المسلمون هم آخر الذين يتسلمون رسالات السماء، ولكن الله تعالى أخبر في كتابه المنزل بأن ثلة من الأولين الذين سبقوا المسلمين هم المقربون في مقابل قليل من الآخرين سيكونون من المقربين؟! فكيف يفضل المسلمون أنفسهم على من سبقهم خلافا لمفاهيم القرآن؟

10)   أليس الله تعالى هو أرحم الراحمين وليس هناك أي شخص من البشر يمكن أن يرحم البشر أكثر من رب البشر نفسه؟

11)   وأخيرا، لو فرضنا أن الله سبحانه أدخلنا جنات النعيم إكراما لبعض البشر، فهل سوف نتهنأ بالجنات التي وعد الله عباده ليحررهم من العبودية لغيره سبحانه ويريحهم من الحاجة لغير الذات القدسية ومن الشعور بالتكرم من إخوانهم الإنسيين!؟

وإني أعطي الحق لمن لا يعلم عن العالم الآخر شيئا أن يستهزئ مني إذ وعدت أن أكتب عن الشفاعة قبل أن أكتب عن الحيثيات المذكورة أعلاه على الأقل. إنه لحق، ولكني أحرر هنا اعتذاري منه بأن أعد بالحديث المفصل عن كل المسائل الأحد عشر في غير هذا الموجز بمشيئة الرحمن وحده. والسبب في هذا السبق الخاطئ لموضوع شائك مثل الشفاعة، هو تهافت المسلمين على نيل الشفاعة من رسول الله أو منه ومن صحابته أو منه ومن ابن عمه وأحفاده وابنته أكثر من سعيهم لإرضاء الجبار العظيم خالق الكون جل جلاله!!

ولعل من أهم الأسباب التي تحول دون أن تخشع قلوب المسلمين لذكر الله تعالى وحده هو إضافة الألقاب الخاصة بسيد الكون الجبار إلى بشر خلقوا من ماء مهين ثم ماتوا أو يموتون ليرتموا بأبدانهم في أحضان الديدان والعقارب الأرضية قبل أن يردوا جهنم غدا. فصاحب الجلالة وصاحب الفخامة وصاحب العظمة وصاحب السمو وصاحب المهابة وغير ذلك كلها ألقاب مضللة للناس ولا تخدم إلا مصالح الشيطان الرجيم عدو الله وعدو البشر.

أضف إلى ذلك ما خلعه البعض من ألقاب غير صحيحة أو مضللة على علماء الدين مثل شيخ الإسلام وحجة الإسلام وآية الله وآية الله العظمى وظل الله والمقدس وصاحب القداسة أو المولى وما شابه ذلك من ألقاب تستوجب المحاسبة والوقوف للاستجواب ولعل العقاب يوم القسط الأكبر بل القسط الكبير أو المطلق إذ لا قسط قبله إلا قليلا.

فلو أن إخواننا أقنعوا أسماعهم على الاكتفاء والاقتناع بألقاب معقولة مثل: خادم الحرم، خادم الناس، الملك، الأمير، رئيس الجمهورية، خادم الشريعة، المحقق، العلامة، كريم القوم، الإمام، رئيس العشيرة، ثقة الناس، ساعي الخير، الحسيب، النسيب، السيد، الأخ وما شابه ذلك لكان خيرا لهم وأقل ضررا أمام الديان العظيم وأقل تعرضا للإيقاف يوم الحساب الأكبر بعد أن تصغي الملائكة الكرام نداء ربهم: وقفوهم إنهم مسؤولون   ما لكم لا تناصرون. هنالك، سوف يتمنى كل هؤلاء أن تسوى بهم الأرض وسيقول جميعهم: ليتني كنت ترابا. والعياذ بالله من خزي يومئذ.

إن الألقاب والأوصاف الخاطئة تخلق الشعور الخاطئ لدى السامعين بأن المعنيين يملكون وزنا ذاتيا لا يمكن مساومته كما نرى اليوم ونسمع: “الذات الملوكية، الذات الأميرية والسلطانية، مولانا، حضرة الفقيه الأجل، بعد لثم أنامل مولانا، جُعلت فداك، أرواحنا وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء، النيل من المراجع الكرام يستوجب القتل، التفوه بشطر كلمة ضد المراجع العظام يستوجب الكفر والعياذ بالله”، وما شابه ذلك من أحكام وتبعات خاطئة مضللة وخادعة.

هذا التفخيم الكبير للذين هم معترفون بأنهم دون مستوى رسول الله وصحابته وأقاربه، يسبب القدسية لمقام صاحب الرسالة وصحابته وأهل بيته في عيون وأبصار المسلمين والمؤمنين. حينما يجلس مختال فخور مثل معاوية بن أبي سفيان على المنبر ويدعي أنه جالس مكان الذي يتشفع الناس به أمام الله، فإنه يضيع الناس ويضللهم. إنه يفعل ذلك بغية جلب الاحترام المفرط لنفسه بأن يضع من يدعي أنه قد أخلفه موضع المشاركة مع الحي القيوم. والعياذ بالله. وهكذا بقية من تحدثنا عنهم. على أنه في الواقع لم يكن خليفة لرسول الله حتى في الحكم بل كان خليفة لعثمان بن عفان في شطر من حكمه ثم خلف الحسن بن علي في حكم غير الشام.

وقد ازدادت الطين بلة حينما انتشرت الفنون الخطية والرسمية بين المسلمين إذ أراد التجار بالطبع أن يستغلوا هذه الأخطاء لبيع سلعهم فيا لله وللتجار. لقد رسموا وكتبوا اسم الله تعالى مثلا بجانب اسم الرسول وكأنهما ندان. الله – محمد. ثم أضافوا فيما بعد أسماء الصحابة أو القرابة كل حسب معتقد زبائنه. إنك تدخل المسجد ناظرا زخرفة الجدران لتظن بأن هناك شخصا كبيرا اسمه الله وأشخاص أخر أصغر منه قليلا وأسماؤهم: محمد، أبو بكر، عمر، عثمان وعلي أو محمد، علي، فاطمة، حسن والحسين. ثم انعكس ذلك على الرسوم الزيتية المنزلية وعلى أواني الزينة وعلى علاقات الصدور والمفاتيح وعلى السجادات والخواتم وغير ذلك.

أما بعد هذا،

فإن مسألة الشفاعة ليست مسألة علمية إطلاقا، بل هي وليدة الفهم الخاطئ لمسائل أخرى، فهي دعي لا أب لها ولا أم أيضا. بهذه الصراحة أبدأ التحقيق حول الشفاعة ومن الله وحده أستلهم الصواب والهداية لي ولكل من يقرأها جميعا. كما أدعوه سبحانه الغفران لي ولهم ولمن مضى من آبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا جميعا، آمين.

وعلينا أن نعرف بأن المواضيع الأحد عشر التي ذكرتها في البداية أكبر من أن تسعها هذا المختصر. وسوف أشرحها مستقبلا بالتفصيل بمشيئة الله تعالى ولكني سوف أتطرق لبعضها باختصار كوسيلة للتعرف على الشفاعة المعروفة بين الناس. ولنبدأ بدراسة الشفاعة لغويا.

شفع يعني جاء من بعد ليتوسط بين الفاعل والمفعول. فإذا قلنا أن الله تعالى أضاء أهل الأرض بالشمس فإننا نعني بأن الشمس شفيع بين العزيز الكريم الذي أراد النور لأرضه وبين الذين ينتفعون من ضيائها في الأرض. وإن قلت أن موسى الكليم نقل رسالة السميع العليم إلى فرعون وقومه فأنت تعني أن موسى شفيع بين الجبار العظيم وبين مدعي الجبروت فرعون ليحذره من مغبة مساومته لله تعالى في عظمته. وهكذا إن قلنا أن القادر المتعالي أرسل ملائكته لتوجيه الحجارة المسومة إلى قوم لوط فكأننا قلنا إن الملائكة شفعاء بين الله وبين قوم لوط في تدميرهم وإهلاكهم وحرمانهم من الحياة الدنيا.

ولعل سائلا يسأل: لماذا يستعين الله تعالى بهؤلاء ليكونوا شفعاء بينه وبين عبيده؟ فنجيبه بأن العبيد ضعفاء أمام نور الله المباشر، فيرسل الحكيم العليم بعض رسله أو صنائعه ليتوسطوا بينه سبحانه وبين عبيده الضعفاء. هذا لا يعني أن الله استعان بأحد بل هو رحيم على عبيده. الكل عبيد و مخلوقون له جل جلاله وهو يستعمل بعضهم ضد بعض متى ما شاء وأراد. فالملائكة شفعاء بين الله وبين كافة عبيده حتى الأنبياء الذين يستلمون الرسالات السماوية عن طريقهم. ثم إن المقصود من كل ما ذكرنا هو إنارة الأرض وهداية البشر وتعذيب الجاحدين عن طريق الوسائط المناسبة والملائمة.

هذه الوسائط تقوم بعملها بأمر الله تعالى وإذنه دون أن تضيف إلى الأمر المولوي همومها وهممها ومآربها الشخصية إن وجدت. ولذلك يمكن أن ننسب كل ما ذكر من أعمال الملائكة إلى الله تعالى نفسه. لا أحد غير البشر والجن يملك الإرادة إطلاقا. إنها جميعا تعكس أوامر الله العامة أو الخاصة أو الطبيعية. وما يقوم به الرسل الإنسيون من هداية وإنذار وتبشير، إنما هي منطلقة من إرادة شخصية موجهة توجيها إلهيا كاملا. ثم إن إرادتهم محفوفة بالأرصاد الملائكية التي لا تسمح للرسول أن يخطئ في رسالته قطعيا. فالأنبياء أيضا شفعاء بهذا المعنى. شفعاء ووسطاء بين الخالق وخلقه لتبليغ رسالة السماء تحت رقابة الملائكة المقربين الذين لا يمكن أن يخطئوا أبدا.

ليس في القرآن الكريم أي دور غير هذا لرسله الكرام في رسالاتهم، عليهم جميعا سلام الله تعالى. ونحن بدورنا نؤمن بهم ونصلي عليهم ونحبهم ونكرمهم ونقتدي بهداهم ونتأسى بهم في عبادة الله تعالى ونصلي لله تعالى كما صلى رسولنا المبعوث إلينا.

ما هو يوم الحساب:

إذا فتح ثري دكانا لأربعة أشخاص مثلا، فإنه سوف يمنحهم ما يكفي لحياتهم المعيشية ويهيئ لهم ما يتناسب مع إدارة الدكان، ويهتم بتوفير الأمان والسلامة لهم لحد ما، ريثما يعملوا ويحققوا الأرباح أو تنتهي جهودهم التجارية بالخسارة مثلا. ثم إن الثري سوف يأتي على كل حال في آخر السنة ليحاسبهم حسابا دقيقا. سوف يسعى أن يحاسبهم بنفسه ليطمئن على صحة عملهم ثم يثيبهم أفرادا أو يعاقبهم، بمقدار ما بذلوه من جهد مخلص أو ما تورطوا فيه من إهمال. سوف لا يفوض هذا الأمر إلى أحد إلا إذا عجز عن أن يأتي بها بنفسه. كل ذلك بسبب:

أولا: أن المال ماله ومن حقه وحده أن يحاسب عماله على ما عملوه.

ثانيا: من حق العمال ألا يتولى محاسبتَهم غيرُ المالك نفسه فهو أكرم عليهم من غيره، وأكثر احتمالا لأن يغفر لهم خطاياهم ويتجاوز عن بعض إهمالهم وقصورهم.

ثالثا: لو كان المالك قادرا على إنجاز المحاسبة والمثوبة والمعاقبة بنفسه فما هو عذره في عدم تتويج المحاسبة بيديه.

رابعا: لو أراد أن يكرمهم بالمكافأة فلماذا لا يكرمهم لأجل نفسه الذي أعطاهم وأكرم عليهم طيلة فترة التجارة؟ ولماذا يكرمهم لأجل شخص آخر؟ ولماذا يُدخل الآخرين في ما هو مختص به وبعلاقاته مع موظفيه وعماله؟

خامسا: سوف يحتاج المالك إلى معرفة حقيقة جهد عماله، فيمكن له الاستنجاد بالشهود والجواسيس للتأكد. ولكنه لو كان عالما بكل شيء فإنه لن يستنجد بأحد أبدا.

نعرف من هذا المثال البسيط أن يوم الحساب هو اليوم الذي يستعرض فيه المالك الغني سبحانه وتعالى أعمال عبيده ليقضي بينهم فيكافئ المحسن ويجازي المسيء. فهل يعقل أن يفوض هذا الأمر الهام لأحد منهم؟ ذلك يعني أن يسلم ناظرُ المدرسة أوراقَ امتحانات التلاميذ لأحد التلاميذ ليقوم بتقدير اختبار زملائه. فهل هذا صحيح؟

ويقول سبحانه لرسوله في يونس: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ﴿108﴾ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ﴿109﴾} ويقول له في الزمر {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ﴿30﴾ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ﴿31﴾} ويقول سبحانه في الزمر أيضا {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ﴿69﴾ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ﴿70﴾} فالحساب على الله وحده وهو الذي يفصل بين رسله وخلقه بنفسه وهو جدير بذلك جل جلاله. والإرادة معدومة تماما لغير الله تعالى حتى أن النبيين يؤتى بهم قسرا ولا يأتون بمحض إرادتهم لعدم تملكهم لها!

وفي الواقع أن يوم الحساب هو اليوم الذي يقضي فيه الديان العظيم بين جميع خلقه بمن فيهم الملائكة المقربون. اقرأ في الزمر: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴿75﴾} بقي أن نعرف بأن الله يؤجل الحكم دائما إلى يوم القيامة إذ لا قضاء قبلها. ولذلك فكل الأحاديث التي تتحدث عن أحوال الناس أو الصحابة أو أهل البيت أو الرسول نفسه في يوم القيامة وعن منازلهم في جنات النعيم، فإن كلها كذب وافتراء على رسول الله عليه السلام. إنه عليه السلام ليس قاضيَ يوم الحساب ولا قضاء قبل يوم الحساب.

نحن في أبسط المحاكم الدنيوية نرى أن القاضي لا يجوز له أن يعطي رأيه في قضية قبل الاستماع الكامل لجميع أطراف النزاع. فلو أفتى حاكم بشيء قبل ذلك وجب عليه التنحي عن القضاء في تلك القضية لعدم توفر النزاهة الكافية واللازمة لديه في قضية معلومة بعينها. إن القاضي محكوم بأن ينظر إلى كل أطراف النزاع بعين واحدة مستعلما الحقيقة، فإذا دخل القاعة وهو مقتنع بأن أحد الأطراف على حق أو محكوم فلا معنى للقضاء حينئذ.

والله تعالى مع علمه بكل شيء وسرعة حسابه (نحتاج إلى معرفة معنى سريع الحساب ولكن ليس في هذه المقالة)، فإنه سبحانه لم يحكم بين عبيده في كتابه الوحيد الموجود بيننا وهو القرآن العظيم. كلما يدعيه المعنيون بهذه الأحكام، فهي منسوبة إلى رسول الله وهو ليس حاكما يوم القيامة بنص القرآن: {يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله – الانفطار:19} هناك الكثير من أحكام الجنة والنار والتفاضل بين الأنبياء والصحابة وأهل بيت الرسول بين يدي المسلمين، وكلها منسوبة إلى رسول الله الذي قال له ربه جل وعلا في سورة الأحقاف: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلا نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴿9﴾}

تعقيب سريع:

فبكل سهولة أقول: إن كل ما يُنسب إلى رسولنا الصادق الأمين من أخبار التفاضل بينه وبين الأنبياء أو بين صحابته وقرابته وباقي الناس أو ما يُنسب إليه عليه السلام من أخبار يوم الحساب ونتائج المحكمة التي ما أقيمت بعد، كلها كذب وافتراء على رسول الله ولو يسعى المحققون فلعلهم يعثروا على مصادر هذه الروايات الملفقة بإذن الله تعالى. إن هؤلاء الكذابين يريدون أن يدنسوا ساحة رسولنا الحبيب عليه السلام ويقولوا بأنه خان ربه وأفتى برأيه ومال إلى صحابته وقرابته وهو لم يكن كذلك.

دوافع المقاضاة:

من الواضح أن أمما يتتالون في مختلف البقاع والأزمان داخل أرضنا بمن فيهم الجن والشياطين وهم مختارون قادرون على إتيان الكثير مما يخالف تشريع السماء. إنهم فعلا لا يسيرون وفقا لما يريده الله تعالى لهم تشريعا. إن مصالح الأمم تقتضي اعتلاء بعضهم عرش الحكم واصطفاء بعضهم لاقتناء العلم والكمال كما تقتضي أحيانا إرسال رسل منهم بينهم لإبلاغ رسالة الخالق سبحانه وتعالى. لقد قضى الله تعالى أن يجتمع هؤلاء معا ليعيشوا خِوان كرم الملك الغني الكريم خالق السماوات والأرض بعد أن عاشوا سفرة الاختبار في الدنيا. وقد فعلَ من فَعل أعماله وربّى نفسه على الخلوص لربه أو التظاهر بذلك وإخفاء الخبث أو إظهار الخبث ومرض الباطن. إن العلماء وذوو الفضائل لا يفرقون بين المخلص والمنافق تبعا لجهلهم بما في الضمائر، فكيف بعامة الناس؟ والله يريد إظهار الحق والعدل وليأخذ كل فرد مكانه اللائق به، إنْ في الجنة أو في النار، وهو مقتنع بأنه ما ظُلم وهو يستقبل حياته الأبدية التي وعد الله تعالى أن يقدر لها البقاء الأبدي. إن المقاضاة الصارمة والصحيحة ممن يعلم الخفيات ضرورية لبلوغ هدف الديان العظيم في إقامة النشأتين. هذا ما سيقوم به سبحانه وتعالى يوم القيامة.

الزمر يوم القيامة:

هم الذين يُقدَّمون للمحاكمة النهائية العادلة:

هم باختصار، كل من عاش في الأرض وكان جديرا بأن يكتسب الخير والإحسان أو يقتني الشر والطغيان وهم كل الذين بلغوا الرشد من البشر والجن. لا فرق بين نبي وعالم وشخص عادي. الكل يتوقعون العدالة ويحبون الحياة الناعمة في الأبدية. ولذلك فإنهم جميعا سوف يدخلون قفص الاتهام حتى يحكم الله بينهم. سوف تبقى الملائكة في كراسي الشهود والمستمعين حتى تنتهي القضاء بين الجن والإنس. ثم يقوم الخلاق العليم العدل بالقضاء بين الملائكة أنفسهم، ليطمئنوا بأنهم ما ظُلموا أبدا والحمد لله رب العالمين.

الأماكن المعدة لحياة البشر والجن بعد الحساب:

هي الجنة بدرجاتها الكثيرة التي تفوق درجات الدنيا بنص القرآن والنار بدرجاتها الكبيرة أيضا. سورة الإسراء {انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴿21﴾}. وأما رجال الأعراف المذكورين في القرآن الكريم وخاصة في سورة الأعراف فهم الذين حضروا الرسالات السماوية في الدنيا. إنهم جميعا رجال باعتبار أن الإنسان يفقد جنسيته بعد الموت ويترك كل مميزات الجنسية للأرض وينتقل بنفسه فهم جميعا جنس واحد. إنهم يُبلغون بأنهم من أهل الجنة ليتنعموا بالأمان دون أن يعلموا درجاتهم أو يبلغون بأنهم من أهل النار ليتعذبوا نفسيا. وهذا كما أحتمل هو معنى الأجر العظيم والعذاب العظيم المخصص لأصحاب الرسل في القرآن وليس لنا جميعا. فلا أظن بأن هناك سور بين الجنة والنار وعليها رجال كما ظن المفسرون. وكنت بنفسي أظن ذلك وأتبعهم حتى وفقني الله تعالى لتفسير سورة الأعراف. هناك تمكنت وزملائي الكرام من التعرف على حقيقة الأعراف بفضل ربنا.

الذين لا يستحقون الجنة ولا النار:

لعل هناك فعلا من لا يستحق الجنة لأنه تكاسل في معرفة الحقيقة أو تكاسل في اتباع تشريعات السماء أو لا يستحق النار لأنه لم يكن مجرما ولا معاندا عالما بالحق ومتبعا للباطل ولما يمكن التوازن الدقيق بين أعماله بسبب ما اتسم به من تذبذب في حياته الدنيوية. هناك بعض الناس قد لا يمكن تطبيقهم على صحابة الرسل لمعرفة حقائق نفوسهم.

إن أي فرد منهم بحاجة إلى قليل من التكرم والتوجه والعطف ليدخل الجنة ولو للعمل فيها عاملا أو حِرَفيا أو صانعا أو مهندسا مثلا. فهل هناك أكرم وجها وأكثر رحمة وعطفا على عبيده من ربهم الذي خلقهم بيده جل جلاله وكبُرت رحمته؟ كلا وألف كلا، بل إنه الرحمان نفسه. قال تعالى في سورة الرحمن: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28). فوجه ربنا هو نفسه الذي عودنا على رحمته ونحن في غمرات الشهوات الدنيوية. وهو تعالى وتكرم ذكر لنا إكرامه في الآيات أعلاه لنعلم بأن كل من يكرمنا غير الله فهو فان بمجرد الموت. لن يبق إلا وجه ربنا فهو وحده الذي سوف يمنح المذبذب منا رحمته وكرامته ليخلصه من شر النار. بل إنه بالتأكيد سوف يسعى لأن ينجي عبيده من عذاب غضبه. العذاب الذي وعد به المجرمين من أجل العدالة وحتى لا يكون المحسن والمسيء بمنزلة سواء عند ربهم. ليس هناك أحد أكرم ولا أرحم علينا من الله نفسه. إن النبي الكريم لا يعرفنا يوم القيامة. إنه يعرف صحابته وأهل بيته الذين عاشوا معه وسوف لا يعرف أولاده الذين أتوا بعده أيضا. وأنا في حيرة من مسامحة الذين يحدثون الناس بشفاعة النبي أو أهل بيته أو صحابته. ألا ليتهم يحققوا في كتاب الله تعالى فلعل الله أن يهديهم.

آيات الشفاعة في القرآن الكريم:

سوف نمر في هذا المقطع على كل الآيات التي ذكر فيها الشفاعة في الكتاب العزيز باحثين عن المعنى المشهور بين الناس. وقد استمسك الكثيرون من قليلي العلم بأي تركيب من مادة شفع ليثبتوا وجود الشفاعة في حكم الله تعالى يوم القيامة. وقام بعض الفضلاء مع الأسف بذكرها باعتبارها تعني معنى الشفاعة المشهورة في الجملة حسب تعبيرهم. ولعدم الالتباس فإن المقصود من الشفاعة لديهم هو كل وساطة معنوية بين مالك الكون وخلقه والتي يمكن أن تؤثر في حكم الله تعالى سواء في يوم الحساب الأكبر أو في دارنا هذه التي نعيشها ونحن نتوقع الرحمة فيها دائما وأبدا. فنقصد بهذا كل الذين يتباركون بالنبي وأهل بيته وصحابته ويتوقعون منهم الشفاء وقضاء الحوائج إما مباشرة كما يعنيه عامة الذين يدعون بحقهم أو كما يدعيه بعض الذين يعلمون قليلا من أن أولئك الطيبون يدعون الله تعالى لقضاء حاجة الخلق والله يسمع لهم أكثر مما يسمع لنا، معاذ الله.

وحتى يسهل علينا فهم الموضوع سنقوم بتبويب الآيات إلى خمسة مجموعات:

أولا: شفاعة الأنبياء في الدنيا بمعنى الهداية والتعليم و شفاعة الناس الوسطاء في المسائل الدنيوية.

ثانيا: شفاعة الملائكة في إدارة الكون

ثالثا: شفاعة الوسطاء يوم الحساب

رابعا: نفي حق الناس في طلب الشفاعة إلى الله تعالى

خامسا: آيات تنفي الشفاعة المعروفة والمنتظَرة يوم القيامة نفيا قاطعا

 

أولا: شفاعة الأنبياء في الدنيا بمعنى الهداية والتعليم و شفاعة الناس الوسطاء في المسائل الدنيوية.

الآية الوحيدة من مادة شفع: سورة النساء: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا ﴿85﴾} هذه الآية ليست ضمن مجال بحثنا ولا أظن أن يستشهد بها أحد لإثبات الشفاعة المنتظرة يوم القيامة ولكني آليت أن أذكر كلما ورد من جذر شفع فذكرتها ولا أناقشها لعدم الضرورة.

ثانيا: شفاعة الملائكة في إدارة الكون

كلنا نعلم بأن الملائكة المقربين هم الوسطاء الحقيقيون بين الله تعالى وعبيده بل وكل المخلوقات المادية لتنفيذ أوامر الله تعالى. ولمزيد من الفهم فإني أوضح للقارئ الكريم أن السبب في ذلك هو العظمة الفائقة لله رب العالمين، وشدة القوة الطاقية لنوره الذي به يمسك السماوات والأرض أو الأرضين حسب تعبيرنا، ومن فيهما ومن بينهما. ويمكننا من آية النور في سورة النور معرفة كيفية ربط النور العظيم بكل ذرات الوجود الممكن لتبقى وتدوم ولا تزول قبل أن يشاء الله جل جلاله غير ذلك. وهكذا فإن الأوامر الربانية تأتي إلى الخلق على شكل طاقة قوية تفجر الموجود المادي لو أنها مسته مباشرة. ويمكننا دراسة ذلك الموضوع بالتعمق في سورتي الحشر والنجم بإذن الله تعالى. والملائكة هم الموجودات الذين خلقهم ربهم سبحانه ليكونوا شفعاء بين الخالق وخلقه. إنهم أو بعضهم مثل الأرواح القدسية قادرون على استلام الوحي المباشر من الله تعالى والتخفيف من توهجه وإيصاله إلى المكان المطلوب والله العالم. ففي هذه المجموعة نذكر الآيات التي تبين وساطة الملائكة وهي أصل معنى الشفاعة حسب رأيي والله سبحانه العالم.

الآية الأولى: آية الكرسي؛ سورة البقرة: 255 {اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴿255﴾} تتحدث هذه الآية الكبرى عن إثبات الألوهية واستحقاق العبادة للأحد الحي القائم على ملكه بكل قوة ودون توان وهوان وغفلة. إن كل ما في السماوات والأرض ملك له، فكيف يغفل عنها وكيف يمكن له أن يغفل عنها مع أنه سبحانه عالم بضعفها وعدم قدرتها على التماسك من دون الاستمداد من الطاقة العلوية الربانية. وفي ملكه الكثير من الوسائط، فالملائكة في الأولوية الأولى يحفظون القبة السماوية والكرات السائرة في الأفلاك، من كل ما يمكن أن ينحرف عن جادة الفلك المتحرك دون توقف. كما أنهم يحفظون الأحياء بأمر الله تعالى ومن ضمنها البشر، ليساعدوهم على أداء ما قدره الله سبحانه من اختبار في ما قضى الله تعالى لهم من أمان واطمئنان. {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله …} الزمر: 11. ونحن نرى وجدانا أن البشر ليس محفوظا دائما، بل يتعرض أحيانا للحوادث كما يُصان أحيانا أخرى. فهل الملَك المأمور بحفظه يحفظه أو يتركه حسب مزاجه أم حسب ما يستحقه الشخص؟ كلا، بل حسبما يريده الله تعالى ضمن سياسته الإدارية لتسيير عجلة الحياة الإنسانية. لولا ذلك لفقد الله تعالى هيمنته وهذا لن يحصل أبدا.

وقد وضح الله تعالى ذلك بصورة أخرى في سورة النجم: 26 {وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى}. وحتى لا يرتبك القارئ، فإني أوضح لهم أن السماوات تعني الأنظمة الشمسية ولا تعني القبة السماوية. فالشمس تدير النظام الشمسي وتحفظ الكرة الأرضية المسكونة في كل نظام بما تبعث من الطاقة وفق إرادة الحكيم الخبير التي تنفذها ملائكته المقربون بأمره وإذنه سبحانه. وهؤلاء الملائكة يديرون الأشخاص بأفرادهم أيضا. إنهم شفعاء ووسطاء عمليون عينهم الله تعالى لتنفيذ أوامره في خلقه. ليس للملَك إرادة إطلاقا. إنه ينفذ الأمر الرباني دون أي تدخل شخصي وإرادي منه. وأما الأنبياء وأهل بيتهم وصحابتهم فليس لهم أي دور في هذا المضمار.

فآية الكرسي تشير إلى إدارة الكون وكيفية توسيط الملائكة لمشيئة رب العالمين جل وعلا لا غير. وتنتهي آية الله العظمى بقوله الكريم: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء؛ وسع كرسيه السماوات والأرض، ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم. ففي المقطع الأخير يخبرنا سبحانه بأنه على علم ودراية كاملة شاملة لما بين يدي الملائكة وما خلفهم وأنهم لا يحيطون بعلم الله تعالى إلا بالقدر الذي يشاء الله تعالى أن يعلمهم بالضرورة. ولنا شواهد أخرى على ذلك في كتابه الكريم ولا سيما في سورة البقرة. ويوضح لنا سبحانه نفس الموضوع في سورة مريم: 64 {و ما نتنزل إلا بأمر ربك، له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا.} هذه الآية المكرمة تتحدث بلسان الروح القدس عن مسألة نزول الملائكة الموكلين بإدارة أمور المجتمعات البشرية مرة كل ألف سنة وهي ما يسمى في القرآن بليلة القدر.

وختام آية الله العظمى تنبيه بأن عرش الله تعالى تسع كل الكون وأنه جل وعلا قادر على حفظ كل الكون بما فيه ومن فيه دون ضعف أو عجز؛ سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا. وباختصار فإنها تصف الإدارة المهيمنة للكون الكبير وتصف وساطة الملائكة لتنفيذ مقاصد السماء جل جلاله، وليس بها أية إشارة إلى حوادث يوم القيامة ووساطة العبيد الإنسيين والجنيين في شيء.

الآية الثانية: سورة الأنبياء: 26 وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28). هذه الآيات الكريمة تفند مزاعم بعض الوثنيين والمسيحيين في عبادتهم للملائكة. يعبدونهم سعيا لإرضائهم واتخاذهم شفعاء  يتساهلون معهم، باعتبار أنهم هم الذين ينفذون أوامر الله تعالى فعلا. فلا ينكر الله تعالى شفاعة الملائكة أو وساطتهم بين الخالق الكريم وبين غير الملائكة من الخلق، ولكنه سبحانه يوضح لنا بأن الملائكة عمال موظفون يعملون عملهم بأمر ربهم، دون أي تدخل شخصي من أي منهم لأحد. إن الله تعالى يراقبهم وهم خائفون مرعوبون منه سبحانه فلا جدوى لكم في التقرب إليهم. فقيام الملائكة بالتنفيذ يتم وفق نظام مبرمج و دقيق، ولكنهم حين العمل لا يغفلون عن هيمنة الله تعالى الكاملة ووجوب انتظار رضاه سبحانه قبل البدء بالإنجاز المبرمج. لذلك، فالتشبث بهم غير مجد إطلاقا، إلا أنه شرك بالله تعالى مع الأسف.

الآية الثالثة: يونس: إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴿3﴾. تتناول هذه الآية كما يبدو قصة ليلة القدر، حيث تتنزل الملائكة العلويون للانضمام إلى الملائكة السفليين المسؤولين عن تسيير الأفراد من البشر. يقوم العلويون بتدريب السفليين على كيفية تنفيذ الأوامر الإدارية الجديدة الصادرة عن الله سبحانه والخاصة بالسنوات الألفية المقبلة، والعلم عنده سبحانه. إن تدبير الأمر غير منوط بيوم الحساب والميزان ويوم القيام لرب العالمين. إنه يوضح كيفية إدارة أمور الناس في الدنيا. فتوسط الملائكة ضروري لتيسير التمتع بخيرات رب العالمين ونوره وتسهيلاته الطاقية سبحانه وتعالى.

إنهم موجودات طاهرة نقية لطيفة غير ملبسة بالمادة. إنهم يتحركون بسرعة غير موصوفة وغير محدودة بالقواعد الفيزيائية. وسرعتهم تفوق بالتأكيد سرعة الضوء تفوقا كبيرا. إن الطاقة التي نلمسها هي نوع من الطاقة المخففة التي نتحملها وليست هي الطاقة الأصلية الصادرة مباشرة من الخلاق العليم لحفظ الكون. ولهذا السبب فإن سرعة الضوء محدودة إلى حد كبير بالحدود المادية التي تُكوّن ذرات الضوء والتي تدخل ضمن مجال الفيزياء. وللعلم فإني أعتبر الذبذبات مادية أيضا ولكننا عاجزون عن تقصي أبعادها الدقيقة. وأما الملائكة فإنهم غير ماديين وغير ملبسين بالأبعاد الثلاثة وهم أرق وألطف بكثير من الجن ومن الضوء.

الآية الرابعة: السجدة: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ﴿4﴾ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴿5﴾. هاتان الآيتان توضحان ليلة القدر بشكل أوسع نسبيا من بقية الآيات العظيمة. إنهما تربطان إدارة الأرض بملائكة السماء ولا تنسيان دور الملائكة الموكلين بالأفراد. هذه الإدارة جزء لا تتجزأ من إدارة الرحمن للكون الكبير، وكلها بمجموعها تابعة لملك الرحمن جل جلاله. والولي هو الله تعالى نفسه الذي يتولى أمر المؤمنين دون الكافرين. وأما الشفيع إشارة إلى الوسائط الملائكية الذين ينفذون أوامره التكوينية وبما أن الآيتين في مقام بيان ليلة القدر وهي الليلة التي يقدر الله سبحانه فيها نظاما اجتماعيا جديدا على رأس كل ألفية؛ فإن الشفاعة هنا هي تنفيذ الأوامر الإلهية لتغيير المجتمعات نحو التقدم وتوجيهها نحو فهم أكثر وعلم أكبر وكذلك توجيهها لكسب مناسب للألفية المقبلة والعلم عند الله تعالى.

الآية الخامسة: سورة طه: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا (112). الآية 109 في هذه المجموعة هي من الآيات التي يستند إليها بعض الاخوة المفسرين الكرام لإثبات الشفاعة، وأنها لِمن أذن بشأنه الرحمن ورضي له قولا وأن الظالمين محرومون منها. ولكنهم يختلفون في مرجع ضمائر الجمع في الآية التالية فيقولون: إما أن تشير إلى الشفعاء فتعني أن الله تعالى عليم بهم ولا يمكنهم التغرير به سبحانه، أو أن تكون راجعة إلى المجرمين. فالله يجزيهم بما فعلوا دون أن يستطيعوا نقض حكمه سبحانه، وفي ذلك خيبة آمالهم. وخلاصة قول الأِخوة أنهم يحبون إثبات وساطة من يهوون من الأنبياء والأئمة والصحابة بين الله تعالى وعبيده. إنهم يفسرون كيفية التوسط المؤثر عن طريق الاسترحام والاستعطاف. لقد خفي عليهم جميعا أن الله تعالى هو أرحم الراحمين بعبيده. إن الشفعاء الذين يدعونهم ليسوا بأرحم بمن ظلم، من الله تعالى نفسه. هؤلاء الشفعاء قد ماتوا قبل أكثر من ألف سنة وهم لا يعرفوننا إطلاقا. إنهم يعرفون الذين عاشوا معهم من أزواجهم وأولادهم وأصحابهم. ولقد استمر الشيطان الرجيم في إغواء الذين تغرروا به وأعدهم لمسألة عدم التعارف بيننا وبينهم. إنه ألقى إليهم بأن أولاد النبي وكذلك الذين يلبسون ملابس مشابهة لملابس الرسول والذين هم علماء بملابسهم الملكوتية البهية فإنهم يتوسطون بيننا وبين النبي مثلا ليتوسط النبي بصورة غير مباشرة بيننا وبين الله تعالى أرحم الراحمين. ألا بعدا لهم كما بعدت ثمود! وسوف أوضح في نهاية البحث دلائلهم الوهنة وأثبت سذاجتها. رحمهم الله تعالى وإيانا وهدى الأحياء جميعا إلى طريقه سبحانه وتعالى.

وأما الآية الكريمة فإنها تنفي الشفاعة يوم القيامة والاستثناء ليس من عدم التنفع بالشفاعة كما تراءى لهم. لو كانت كذلك لزم تبعا لقاعدة اللطف أن يوضح الله تعالى قبله أو بعده أوفي أي مكان آخر من القرآن، بأن الشفاعة وسيلة من وسائل الغفران. إنه سبحانه لم يفعل ذلك بل ذكر في أكثر من مكان ألا ملجأ لأحد يوم الحساب. الشورى: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ (47). فالله تعالى ينفي نفيا مطلقا وجود أي ملجأ غير الله تعالى يوم القيامة لكل الناس. الخطاب كما يبدو لصحابة الرسول ومن مثلهم من البشر عامة وليس لبعض الظالمين كما يزعم البعض.

فالله سبحانه ينفي الشفاعة المزعومة التي ينتظرها الذين ظلموا أنفسهم؛ ينتظرونها من الذين يوالونهم ويحبونهم، ولكنه سبحانه لا يمكن أن ينفي وجود الشفاعة مطلقا. هناك شفاعة أو وساطة الملائكة بين الله وخلقه لتنفيذ الأوامر ولكنها تشترك مع الشفاعة المزعومة في اللفظ فقط وليس في المدلول. إن الملائكة يتوسطون بين الله وبقية خلقه من غير الملائكة حتى في يوم الحساب. إنهم هم الذين يسوقون المجرمين والمؤمنين وهم الذين يفرزون الناس جميعا في زمر وجماعات متناسقة ومتناسبة باعتبار أعمالهم وما أثّرت الأعمال في نفوسهم، وهم الذين يناقشون الناس والجن على النار وعلى أبواب الجنة بأمر الله تعالى. إنهم هم الذين أذن لهم الرحمن أن ينفذوا أوامر الله تعالى ورضي لهم قولاً.

لم يقل الله تعالى في أي مكان في القرآن أنه رضي للمسلمين بل قال رضي عنهم. إنه سبحانه أفصَحَ بأنه رضي لنا الإسلام ولم يرض لنا الكفر وبأنه سبحانه رضي للملائكة أن يفعلوا بنا ما يشاء الله تعالى. ما هو معنى أن يرضى الله للمؤمنين الصالحين القول؟ أو أن يرضى للذين يستحقون الشفاعة القول؟ أو أن يرضى للناس الذين ينتظر المنتظرون منهم الشفاعةَ القول؟ أي قول هذا؟ إنه القول الصواب لمن لا يمكن أن يقول غير الصواب؛ ولكن البشر قادرون على أن يقولوا الصواب وغير الصواب. وقد قال تعالى في سورة النبأ: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38).

وكما يبدو بأن الله وفي يوم القسط الأكبر يشترط القول الصواب حتى على الملائكة والروح؛ وهذا الموضوع يحتاج إلى بحث لا يسعه هذا المختصر.

ولذلك فإن جملة: “يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم” التي يقولها الله تعالى عادة للملائكة ولكنه سبحانه قالها في سورة الحج حين ذكر الرسل الإنسيين أيضا. إنهم في الدنيا رسل وكل الرسل محاطون بعلم الله وتوجيهه الجبري حي أداء الرسالة. أما في الآخرة فلا رسول من الإنس أو الجن إطلاقا إذ لا هداية هناك ولا إرادة هناك عدا إرادة الله وحده جل وعلا. هؤلاء الرسل هم هداة الجن والإنس فليس لهم أي دور يوم لا هداية ولا عمل. لكن الملائكة هم رسل التكوين وليسوا رسل الهداية فقط. ولعل المقصود من هذه الجملة الكريمة هو إثبات الهيمنة السلطانية من الملك العلام على كل رسله وليس لإثبات علم الله تعالى بكل ما يفعله المريدون. فلو قال تعالى بأنه يعلم كل ما يفعله المريدون من قبل أن ينووا ذلك لأصبح الاختيار جبرا بالفعل، وهو ممنوع.

ذلك لأن علم الله تعالى لا يغاير إرادته أبدا، فكل ما علم سوف يحصل على  الرغم من إرادة كل من هو غير الله سبحانه. فالمقصود من “يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم” هو سبق علم الله تعالى بما يريد أن يفعله الشخص بالإضافة إلى علمه سبحانه بما فعل العبد فعلا. هذا صحيح بالنسبة للملائكة بصورة عامة وبالنسبة للرسل الإنسيين في رسالتهم فقط. إنهم غير مختارين لإبلاغ ما شاءوا بإرادتهم الإنسانية، بل هم وحين تبليغ رسالة السماء، مسيرون تسييرا كاملا مثل الملائكة. ولكنهم عليهم السلام مختارون في أعمالهم الأخرى وخاصة الشخصية منها. ذلك ليفعلوا الخيرات ويتناهوا عن السيئات بمحض إرادتهم دون سوق أو إجبار من الأعلى. هكذا سوف يستحقون الجزاء يوم القيامة، ولولا ذلك لتعذر دخولهم جنات النعيم إن كانوا محسنين. ألم ترَ أن الله تعالى لم يقل في أي مكان في كتابه المنزل بأن الملائكة يستغفرون الله تعالى لأنفسهم أو بأنه سبحانه يغفر لهم، بل قال سبحانه ذلك بشأن الإنس والجن وبشأن أنبيائهم ورسلهم في غير مورد طيَّ الكتاب السماوي العظيم. ذلك لأن الغفران خاص بمن سبق له العصيان، فلا يمكن أن تعصي الملائكة إطلاقا، وإلا اختل نظام الكون.

فالمقصود من هذه الآية أن الشفاعة الاختيارية وطلب التوسط من البشر بين الله وخلقه مرفوض وغير نافع وأن الشفاعة بين الخالق وخلقه سوف تنحصر يوم القيامة على الملائكة الذين أذن لهم الرحمن بذلك. وأذن له أو رضي له الله تعالى مساوق لأمر الله تعالى، فالملَك يفعل كل ما أمر به الله تعالى ولا يفعل كل ما لم يأمر به الله تعالى. إنه يعتبر الإذن وجوبا لعدم وجود إرادة تشريعية من الله لملائكته. لو كان كذلك لكانت الملائكة مؤهلين للتنعم بجنات الفردوس تبعا لطبيعة التشريع وهو مغاير لطبيعة الملائكة تماما. أما الإنسان وفي هذه الدنيا فقط، فإن الله سبحانه وتعالى قد شرّع له فعل الخير وأمره بذلك أمرا إرشاديا لا جبر فيه، ليعمل الصالحات بمحض اختياره فيستحق الغفران والنعيم أو يعصي فيدخل النار. هذه النوع من الأوامر خاصة بالبشر والجن دون غيرهم ممن نعرفهم من خلق الله تعالى.

و أظن ظنا كبيرا بأنه سبحانه تثبيتا لهذه الغاية،  أعقب الآية الكريمة بقوله الكريم {وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما} والوجوه تعني العقلاء المختارين الذين يحمل كل منهم وجها لنفسه، حيث تقوم النفس بتوجيه الوجه حيثما تريد في الدنيا ولكنها تعجز عن ذلك بعد الممات تبعا لفقدان الإرادة. وليس للملائكة وجوه، بل إن كل الذين هم غير الجن والإنس ممن نعرفهم من الخلق يمثلون وجه الله تعالى وحده. وليس في القرآن أي ذكر لوجوه الملائكة مثلا ولا لوجوه الحيوانات. فالحيوانات لا تملك وجها بهذا المعنى؛ إنما هي موجهة إلهيا. إنها لا تملك وجوهها المادية الفيزيائية التي نراها، فلا يذكرها الله تعالى لعدم توهم الخطأ كما أظن، والعلم عند الله سبحانه.

أما أصحاب الوجوه فقد ذلوا جميعا أمام الله تعالى يوم الحساب {وكل أتوه داخرين}. فالذين استحقوا رضوان الله تعالى فسوف ترضى وجوههم وتنضر لتنظر إلى ربها، وأما الذين سخط الله عليهم فسوف تكلح وجوههم وتقطب لتلفحها النار والعياذ بالله من خزي يومئذ.

أما بعد هذا فإن الداعي من الملائكة هو المنادي الذي ينادي باسم أصحاب الدعاوى كما عليه الحال في محاكمنا الدنيوية. وأما الشافع من الملائكة فهو المحامي الذي يدافع عن قوانين الله تعالى ولكنه يتظاهر بالدفاع عن المتهم. ولذلك يقول سبحانه: فما تنفعهم شفاعة الشافعين، والعلم عنده جل جلاله.

الآية السادسة والأخيرة في هذه المجموعة: سورة النجم: وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى ﴿26﴾. الإمعان في هذه السورة العظيمة يوصلنا إلى أهمية الاعتقاد بالهيمنة الملكوتية الكاملة لله تعالى في جميع خلقه. وبأن الناس محاسبون بأفرادهم وما حملوه من أوزار دون أن يؤثر أحد في أحد شيئا، وهو معنى العدالة الحقيقية. وبما أن الله تعالى يملك كل شيء فإنه سبحانه يؤكد لنا هيمنته الكاملة على كل الموجودات بما فيهم الملائكة الذين هم في منتهى القوة والقدرة ولكنهم مسيرون تسييرا كاملا تحت الإشراف الكامل لله تعالى وحده. وسورة النجم تنطوي على أسرار ملكوتية مبهرة بظني القاصر.

وفي هذه الآية الكريمة يوضح الحكيم العزيز هيمنته الكاملة على ملائكته بأن توسطهم وشفاعتهم لإيصال الطاقة والأمر والحياة إلى بقية الخلق ليست شفاعة إرادية باختيارهم. بل إنها شفاعة وسطية محكومة بالسيطرة الكاملة المحيطة من قبل رب العالمين جل جلاله. إن الملائكة الكرام يمثلون إرادة الله تعالى ولذلك أمرنا بألا نفرق بينهم وبين الله تعالى. كما أننا لا نفرق بين الله تعالى وبين رسله حين تبليغ الرسالة حيث أنهم في تلك الحالة محاطون أيضا بالطاقة التسييرية دون أن تكون لهم الخيرة. وقد نسب الله الشفاعة كلها إليه سبحانه كما في سورة الزمر:44 {قل لله الشفاعة جميعا له ملك السماوات والأرض ثم إليه ترجعون}. فلا شفاعة إلا شفاعة الملائكة وهم يفعلون كما يريد الله تعالى تماما دون أي تدخل منهم أو نقص أو زيادة في عملهم إضافة إلى شفاعة الرسل في تبليغ الرسالة السماوية إلى الإنس.

وأعقب سبحانه الآية 26 من سورة النجم المذكورة أعلاه بآية أخرى تصب اللوم على الذين يظنون الجنسية في الملائكة الكرام. إن الجنسية خاصة بالنبات ومن بعدها الحيوان والجن في حياتهم الدنيا فقط بغية التكاثر والتطور لا غير. فالملائكة عباد فحسب وليسوا ذكرانا ولا إناثا. إن الأنثى مثل الذكر عاجزة عن القيام بأي تطوير لنفسها بل هي محتاجة إلى الذكر ولو أنها فعلا متطورة أكثر من الموجود الذكر. ولو أن أنثى أنجبت ولدا فهي بمساعدة الروح القدس وليس بمفردها. إن الروح القدس هو الذي تولى التغيير الجيني لديها لتحصل على كروموزوم Y الذَكَري. هذا الضعف المادي الغريب لا يؤهل الشخص لتنفيذ أوامر الله تعالى في الكون، فيجب أن يكون المنفذ لإرادة الرحمن منزها من الجنسية تماما. والملائكة كذلك وهم منزهون من المادة تماما أيضا. فالملائكة على أنهم مطهرون من الجنسية ومن المادية وقادرون على تنفيذ أوامر الله تعالى المولوية، ولكنهم مسلوبو الاختيار سلبا كاملا. فلا يقومون بتحقيق أي عمل إلا بعد إذن الله ورضاه سبحانه. ولمزيد من الدقة فإنه سبحانه يحيط بهم ويراقبهم. ذلك لنعلم ألا مجال للظلم والخطأ في حسابات الرحمن سبحانه وتعالى.

ثالثا: شفاعة الوسطاء يوم الحساب

وهي آيات تتحدث عن انتظار الذين ظلموا أنفسهم من الذين اختاروهم شفعاء بينهم وبين الله، سبحانه و تعالى عن ذلك علوا كبيرا. لفظة الشفاعة المذكورة في هذه  الآيات تعني تماما ما يدعيه المفسرون وغيرهم ويعتقد به عامة المسلمين والمؤمنين الذين لا يعلمون إلا قليلا. إنهم يدعون أن هناك أناسا يتوسطون بين الله تعالى وبين خلقه لدرء العذاب عنهم، فيتقبل الله منهم وساطتهم ويكرمهم بالعفو والمغفرة لمن توسطوا لهم. هذه الآيات تذكر ذلك المعنى وتنفيها نفيا قاطعا أمام الله تعالى وتفند كل زعم بهذا الشأن. والتفنيد يكون بالإنكار تارة وبعدم الجدوى تارة أخرى، أو بأن الشفاعة غير واردة في يوم أراد الله تعالى له أن يكون يوم عدل وحساب ليجزي الصالحين بما يستحقون ويجازي الكافرين والظالمين بما يستحقون أيضا.

الآية الأولى:  الأنعام: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ﴿94﴾. في هذه الآية الكريمة المشابهة لآيتي سورة الروم (12و13) الآتي بيانهما، فإنه سبحانه يخاطب طالبي الشفاعة حين موتهم وانفصالهم عن الجسد وصعودهم ورجوعهم إلى ربهم فرادى دون أجساد، بخطاب تهكمي واضح: مانرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء. اعتبر سبحانه زعم الشفاعة شركا كما اعتبر الشفيع المزعوم شريكا في المولوية مع الله تعالى والعلم عنده سبحانه. فحين يتيقن الإنسان بعد خروجه من البدن بأن الله موجود فعلا، ويرى ألا أحد مع الله جل وعلا، ولا شريك ينازعه في ملكه وسلطانه على الخلق أجمعين، ثم لا يرى أي أثر من آثار المولوية لغير الله تعالى على نفسه؛ آنذاك يصير مستعدا جدا لمعرفة الحقيقة. سوف يوجه الله تعالى إليه الحقيقة ليعلم بخيبته و خذلانه فيعيش في البرزخ حياة مليئة بالخوف والهلع حتى يُبعث. والعياذ بالله من ذلك.

الآية الثانية: سورة الأعراف: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴿53﴾ القرآن الكريم كتاب حق لا يقول غير الحق والصدق؛ وسوف نرى بعض ما قاله الله تعالى في محكم كتابه الكريم في حياتنا الدنيوية. ولكننا سوف نرى كامل تأويله يوم القيامة. يوم تتجلى الحقائق على شاشة الحياة الأخروية فنعلم أن الله حق وأن ما قاله حق ونرى كل شيء بأبصارنا. إن هدف هذا الكتاب هو هداية الناس إلى طريق الله تعالى بالمنهج الملائم للتكوين الفطري للناس وهو الإنذار بالنار الحريق والتبشير بجنات الحبور والنعيم. وبالطبع فلا يمكن أن يكون الحقائق الكونية هدفا لكتاب الله تعالى ولو أنها مذكورة طياته لإثبات اتصال الكتاب العظيم بمن يعرف السر في السماوات والأرض جل جلاله. هذا الهدف السامي سوف يتجلى بوضوح يوم  القيامة والعلم عنده سبحانه.

هناك وعلى معرض من النار، يقول الذين نسوا القرآن من قبل في توجهاتهم وهمومهم،  وهم الكفار والمنافقون والمسلمون والمؤمنون من أهل الديانات الأخرى الذين نسوا القرآن والتوراة والإنجيل وبقية كتب وصحف السماء، يقولون: جاءت رسل ربنا بالحق. لقد جاء نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد بالحق من عند العزيز الحكيم، فتركناه واتبعنا الأحبار والرهبان والمحدثين والرواة وبعض العلماء الدينيين الذين يدّعون الكثير ولا يثبتون بالدلائل إلا القليل. هكذا ينسى الناس كتبهم التي أنزلها الله تعالى لهم تكرما منه وفضلا مع الأسف ويتبعون الأقاويل المخلوطة التي لا يمكن أن تكون كلها صحيحة لأنها من عند غير الله تعالى. {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} الآية 82 من سورة النساء. وفي هذه  الآية دليل واضح على وجوب السعي لفهم القرآن.

وفي الآية موضوعِ بحثنا، أمرٌ ضمني بلزوم فهم القرآن لكل من ادعى الإسلام أو ورث الإسلام من سلفه، لينجو من عذاب الله وإلا فلا غفران بالاستحقاق. وأما تساؤل الخاسرين: (هل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا؟) فهو كلام مساوق للجملة التالية (أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل). وكلاهما استفهام للإنكار التام بمعنى: ليس لنا شفعاء فيشفعوا لنا، ولا يمكن أن نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل.

والسؤال الذي يمكن أن يعرضه بعض الأخوة المفسرين هو: هل هناك من له شفعاء فيشفعون له؟ والجواب: إن الآخرين ليسوا بحاجة إلى شفعاء ليشفعوا لهم، لأنهم عملوا بالقرآن ولم ينسوه، فسيدخلون الجنة حسب وعد الله تعالى. إن الله سبحانه وفي أي مكان من القرآن لم يقيد جناته بالشفاعة أو بحب الأفراد أو بولاية أهل البيت أو الصحابة؛ بل قيدها بالعمل بالقرآن بعد تدبره والعمل بفرائض الله تعالى والانتهاء من منهياته وليس بشيء آخر. ولعل آخر يسأل: لماذا ذكر الله تعالى الشفاعة هنا وأن هؤلاء ليس لهم شفعاء فيشفعوا لهم؟ أليس ذلك لأن بعض الناس لهم شفعاء فيشفعوا لهم؟ فنجيب عليهم:

ألف) أن الله تعالى لم يقيد أحدا بالشفاعة في أية آية من آيات كتابه الكريم ولم يذكر أن هناك من يدخل الجنة بالشفاعة، بل ذكر سبحانه بأن الشفاعة غير متوفرة في ذلك اليوم.

ب) أن هؤلاء كانوا يتشبثون بالشفاعة في حياتهم الدنيوية، فلزم أن يقول الله تعالى لهم من لطفه ألا شفاعة في يوم الحساب. ولذلك أعقب سبحانه بقوله الكريم {قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون}، فلو كان المقصود بأنهم لم ينتخبوا شفعاء مقبولين، لقال تعالى: (وضل عنهم من كانوا يفترون). فقوله سبحانه: {ما كانوا يفترون} إشعار واضح بأن أصل الشفاعة ادعاء باطل موهوم والعلم عند الله تعالى.

الآية الثالثة: سورة يونس : وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿18﴾. يظن الكثيرون بأن العبادة لله محصورة في الوقوف في الصلاة التقليدية خمس مرات في اليوم ويلحقون بها الصلوات المستحبة وكذلك الصلوات التي تجب في المناسبات المعروفة. والله تعالى يقول في سورة المعارج: إلا المصلين(22) الذين هم على صلاتهم دائمون(23). خلاصة الآية هي أن الصلاة الدائمة لا تقتصر على الصلوات المعروفة. إن كل توجه مقرون بالاسترحام والطلب المعنوي فهو صلاة وعبادة في الواقع. العبادة معناها الطاعة والخضوع والحب الشديد. ألا ترون العشاق يقولون عن حبيباتهم: أحبها حب العبادة! هذه الجملة صحيحة في اللغة العربية وهم بحبهم الشديد يعبدونهن فعلا. ولذلك فإن الذين يقفون أمام الأصنام بخضوع ويقدمون لهم القرابين أو ينذرون لهم وهم لا شيء ولا حياة لهم، فإن أولئك يعبدون الأصنام دون شك.

أضف إليهم الذين يتبركون بقبور الأولياء والطيبين من الأنبياء وأئمة المسلمين والمؤمنين وأولادهم وأزواجهم، فهم يقفون أمام قبر إنسان مات فعلا ويطلبون منهم قضاء الحوائج. هؤلاء يعبدون المقبورين دون أي شك ولكنهم لا يشعرون بذلك في الغالب. إنهم لا يفكرون بأن هؤلاء ميتون، فلو كان لهم حول أو قوة لدفعوا الموت عن أنفسهم، قبل أن يدفعوا عن محبيهم البلايا والرزايا. والغريب أن المصلين يبكون عليهم، فالذي تبكي عليهم لموته أو مظلوميته عاجز عن مساعدتك بالطبع. إنه كان حيا وعجز عن حفظ نفسه وأهله، فكيف يساعدك وهو ميت؟ هذا العمل هو عبادة فعلا دون أن يشعر به العابدون مع شديد الأسف. و أنا أعرف بعض هؤلاء العابدين لغير الله بأنهم في الغالب أناس يؤمنون بالله ويحبونه ويحملون قلوبا طيبة ولا يقصدون عبادة غير الله تعالى، ولكنهم يأتون بها عن جهل ودون قصد.

والمؤسف حقا أن المعممين من رجال الدين لا يمنعونهم، بل يشاركونهم أحيانا في عبادتهم. من المحزن جدا أن أرى فيلسوفا مسلما يقف بخضوع أمام قبر فتاة ماتت في الخامسة من عمرها قبل أكثر من اثني عشر قرنا، وهو يبكي ويطلب منها التوسط بينه وبين ربه الغفور الرحيم، أرحم الراحمين، رب السماوات الذي يسمعه وهو قادر على مساعدته. إنه سبحانه فوق ذلك يأمره ويعلّمه بأن يخضع له ويعبده ويدعوه بما يشاء فهو حي لا يموت. كيف ينسى هذا الفيلسوف المسلم المعروف بالعلم ربَّه ويتشبث بقبر طفلة ميتة لا حول لها ولا قوة، كما لا حول لأجدادها وآبائها و لا قوة أيضا؟ ثم كيف يتجرأ الإنسان الذي يعلم، أن يتخذ الموتى وسطاء بينه وبين الحي القيوم الذي هو أقرب إلينا من حبل الوريد؟ اللهم اهد أهلي وقومي فإنهم لا يعقلون، واهدني معهم وعرفنا على شياطيننا لنلعنهم ولا نستمع لدعواتهم المضللة.

ولقد اعتبر الله سبحانه اتخاذ الشفعاء عبادة لهم وشركا صريحا به تعالى. ذلك بأن العبادة هي الخضوع وهؤلاء يخضعون لأولئك. اتخاذ الشفعاء يعني إشراك أحد مع الله تعالى في الولاية على خلقه، وأكبر من ذلك اعتبار هذا الوسيط أقرب إليهم وأرحم من الله تعالى أرحمِ الراحمين! أرجو من هؤلاء أن يفكروا قليلا فلعلهم يستنتجوا التالي:-

  1. عاش النبي مع صحابته فترة قصيرة، ثم تركهم ميتا لا حراك فيه وحيل بينهم وبينه سمعا وبصرا وإحساسا كما حيل بين النبي ونفسه حينما توفاه الله تعالى ليفقد كل مظاهر الإرادة إلى الأبد. لقد علم العقلاء أن النبي عليه السلام لم يكن بذلك القرب الذي تراءى لهم، فقد تركهم جسدا بلا حياة. ولكن الله تعالى كان ولازال وسيبقى فعلا أقرب إلى أفراد خلقه من حبل الوريد، فسبحان الله العظيم جل جلاله. ولعل أجمل جملة قرأتها من سلفنا بعد وفاة حبيبنا المصطفى هو ما قاله أبو بكر رضي الله عنه وأكتبها من الذاكرة فلعل هناك اختلافا في النص دون المعنى: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
  2. كان النبي في حياته عاجزا عن التحدث إلى الموتى بنص القرآن، فكيف يمكننا نحن التحدث إلى الموتى وهم مقبورون؟ وزعم بعض الأخوة أن الملائكة ينقلون الكلام إلى الموتى من الأنبياء وأبناء الأنبياء. هذا زعم غير مشفوع بالبرهان وهو افتراء على الله تعالى. لو كان هناك ملائكة ينقلون الكلام إلى الموتى وأراد الله تعالى أن يبلغنا بهم لَذَكر في كتابه المنزل. والنقل عن النبي غير مجد لأنه عليه السلام بنفسه لا يمكن أن يعلم ذلك. وعلى كل حال فالرواية تحتمل الصدق والكذب، ونسبة عملٍ إلى الملائكة تبقى اتهاما غير مبرهن ولا يجوز التشبث به والحكم على أساسه أو نقله إلى العامة تحت العناوين الصادقة. سوف يُعتبر ذلك افتراء حتى يثبت العكس.
  3. النائمون في القبور أجسام بلا نفوس، وأما النفوس فقد انتقلت وأعيدت إلى الله تعالى، وبما أن كل موجود غيرَ الله محتاجٌ إلى المكان، فنحن لا نعلم مكان استيداع تلك النفوس إطلاقا. كلما نعرف أنها متوفاة والمتوفى يفقد الإرادة بنص القرآن. فلا الأجسام ولا الأنفس تنفعنا أو تضرنا، وإلى هذا المعنى تشير الآية الكريمة من سورة يونس أعلاه.
  4. أن تشبث بعض الذين يعلمون قليلا والمضافة أسماؤهم إلى العلم حسبما يدعوهم العامة من الناس، بالتفسيرات العلمية للشرك الذي يقوم به الجهلاء تجاه هذه القبور، هو تشبث ضعيف بحبل أضعف منه. ذلك لأنهم لا يسعون لفهم كتاب الله، ثم القيام بدعوة مريديهم لاتباعه، بل يسعون لتصحيح أخطاء السلف على حساب حقائق القرآن العظيم. لقد وضح الله تعالى كيفية الدعاء والتوسل إلى الله تعالى، ثم أمر نبيه بإبلاغ الناس بأن الله تعالى قريب يجيب دعوة الداع إذا دعاه ولم يأمره سبحانه بأن يتوسط بينه وبينهم. إن من واجبنا أن نعرف القرآن ونسعى لفهمه ثم نتبعه وليس صحيحا السعي لتبرير ما فعله غيرنا. إن ذلك سبيل الهلاك واستجابة لدعوة الشيطان الرجيم لعنه الله.
  5. لا يكفي لإثبات خطأ من يدعونا إلى عبادة الله وحده وترك الخضوع للقبور بأن نتهمه بالوهابية، كما لا يكفي لإثبات وجوب الأكل والشرب لسد الجوع والعطش بأن الوهابيون يأكلون ويشربون لسد الجوع والعطش فيحرم الأكل والشرب حتى لا نقلد الوهابيين! إن كل من يقوم بعمل صحيح فعلى الآخرين اتباعه بحكم العقل، كائنا من كان ذلك الشخص. فمثلا إذا رأى شيعي طبيبا وهابيا يعالج السرطان ببراعة، وجب عليه مراجعة الطبيب الوهابي وتلقي العلاج لديه تلافيا للهلاك. اللهم إلا إذا شك في نية الطبيب المخالف. ومن الخير للمسلمين ألا يتهموا أنفسهم ولا يتنصلوا ممن هم مسلمون مثلهم ولا يكفّروا من ألقى إليهم السلام بأمر الله العظيم. وهذه الدعوة موجهة للطرفين بإذن الله تعالى.
  6. حينما نفكر في اتخاذ شفيع إلى ملك أو قاض أو مسؤول كبير في الدولة، فإننا لا نذهب إلى بقرة أو نملة أو فيروس لنطلب منه الشفاعة، كما لا نذهب إلى إنسان بعيد عمن نحتاج إليه. إننا نسعى للتعرف على إنسان من حاشيته أو قرابته أو كبار موظفيه الذين يحتاج إليهم الشخص الكبير، فنلتمس منه الشفاعة عله يؤثر في قلب الوجيه ويجعله يبتهج بهذه الوساطة. هكذا يمكن أن يتقبل المرادُ الوساطةَ ويقضي مرامنا. وبالطبع فإن الكبير سوف يسجل تلك الوساطة في الجانب المدين من حساب الشفيع حتى يستفيد منه عند الضرورة والحاجة! ولكن لا يوجد شيء مثل الله تعالى كما ليس لله تعالى حاجة في أي ممن خلق ليتوسط بيننا وبينه جل جلاله. فإذا قدمنا إنسانا مثلنا للتوسط بيننا وبين الله تعالى، فكأننا نقول لذي العرش العظيم: قريبك هذا قدمته بين يدي حاجتي إليك فتقبل مني! والعياذ بالله. هذا شرك إذ لا أحد قريب من الله العزيز العليم، بل الله قريب من خلقه فحسب. إن الملائكة مقربون إلى الله وليسوا قريبين منه سبحانه. إنه سبحانه ومن فضله يقرب الملائكة ويقرب المحسنين إليه تكرما منه. ولو نستقرأ القرآن فإننا لا نجد فيه أية إشارة إلى قرب أحد من خلقه منه سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا. وكل التقريبات الإلهي لخلقه لا يتجاوز معرفته سبحانه. فالمقربون هم الذين يكرمهم الله تعالى بالمزيد من التعرف على القدوس. ومعرفة القدوس علم لا ينتهي بالنسبة لنا نحن الخلق.
  7. حينما تُوسطُ أحدا بينك وبين العليم الخبير، إنما تخبر الله سبحانه بأن هذا العبد الوسيط يمن عليك بأنه مولاك وسيدك كما أن الله تعالى مولاك وسيدك. هذا شرك أيضا فالمولوية خاصة بالله تعالى ولو خاطبت أحدا غيره بالمولى فيجب أن تقصد المحبة والصداقة أو الرئاسة المؤقتة وليست الولاية التي هي خاصة الله تعالى لا شريك له في ذلك. ومن الخير أن يتوقى المؤمنون من إطلاق لفظ المولى على أحد غير الله تعالى لعدم توهم الولاية.

الآية الرابعة من آيات شفاعة الوسطاء كما يزعمون: الشعراء: وَمَا أَضَلَّنَا إِلاّ الْمُجْرِمُونَ ﴿99﴾ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ ﴿100﴾ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ﴿101﴾ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿102﴾ هذه الآيات مشابهة للآية السابعة من آيات شفاعة الوسطاء كما سيأتي، حيث يعترف المجرمون بأن لا شفيع لهم، فيا ليتهم يعودوا إلى الدنيا ليكونوا من المؤمنين. ثم إن هذه الآيات تأتي بعد دعاء إبراهيم: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴿87﴾ يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ ﴿88﴾ إِلاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴿89﴾ ولم يقل: إلا من أتى الله بشفيع مقبول! فالشفاعة التي يتحسر عليها المجرمون هي عين الشفاعة وليست شخصية الشفعاء كما يتزعمه البعض.

الآية الخامسة: الروم: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ﴿12﴾ وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ ﴿13﴾. المجرم هو الشخص الذي يكثر من فعل الموبقات ويظلم نفسه والآخرين، سواء كان من أتباع الديانات أو من الذين لا يؤمنون بالله أو من الذين يؤمنون به ولا يوحدونه أو يعبدون غيره. كل الذين يقدمون القرابين للتماثيل والأصنام أو للأشخاص الذين يتبركون بحبهم أو للقبور التي يتبركون بها باعتبار من دفن فيها من الموتى؛ فإن كلهم يتوقعون من الذين يتقربون إليهم الشفاعة عند الله تعالى يوم القيامة وفي يومهم هذا. لو كان معاصي هؤلاء قليلة وكانوا من التوابين، فلعل الله أن يغفر لهم، وأما لو كانوا من المجرمين فهم المحرومون من مغفرة رب العالمين. سوف ييأسوا يوم القيامة من الشركاء الذين اتخذوهم شفعاء إلى الله تعالى.

ولا أدري من الذي سوف يستفيد من الشفاعة؟ إنهم ظنوا بأن أولئك الذين يتقربون إليهم، فهم شركاء في الولاية عليهم. إنهم يعتقدون بأن الله تعالى هو مولى الناس، ولكن الشفعاء يشاركون الله تعالى في الولاية على الخلق. وقد وضح سبحانه في آخر سورة محمد بأن الله هو مولى الذين آمنوا (بمن فيهم النبي نفسه) وبأن الكافرين لا مولى لهم. ذلك بأن المولى هو القريب الذي يمكنه مساعدة وليه وليس البعيد الذي لا يسمع صراخ المستغيث به إن كان ميتا، كما أنه لا يملك القوة على مساعدته مساعدة جدية إن كان حيا. ولو ساعده مما أباح الله له فإنه إما أن يتوقع ممن ساعده نفعا مباشرا أو ينتظر الموهبة من رب الذي استفاد من المساعدة. لكن الله تعالى لا يتوقع أية منفعة شخصية من أي محتاج. والكل محتاج إلى  الله جل جلاله.

فالمولى هو الله وحده، والذين من دونه لا يمكن لهم أن يكونوا موالي لأحد إلا في حدود الصداقة والمحبة التي تنتج التعاون والتماسك والتنازل لبعضهم البعض. فالرسول يمكن أن يكون وليا لأحد وليس هو مولى لأحد. إنه ولي يعطي ويأخذ ويفيد الغير ويستفيد منهم والله غني عن العالمين. ولم يذكر القرآن بأن الناس أولياء (جمع المولى) لبعضهم البعض إطلاقا، بل إنهم أولياء (جمع الولي) لبعضهم البعض. وأما ما ذكره سبحانه من ولاية الشياطين ومن ولاية غير الله تعالى فهو اتخاذهم أولياء وليسوا فعلا أولياء (جمعا للمولى طبعا). وحتى الذين اتخذوا الطيبين أولياء بهذا المعنى فهو لهم بئس المولى وبئس العشير. ذلك لأن ضرهم أقرب من نفعهم باعتبار حاجتهم. والحديث في الآية 12 من سورة الحج هو عن المنافقين من الصحابة الذين دخلوا الإسلام طمعا فالرسول لهم بئس المولى وبئس العشير. إنهم اتخذوا رسول الله مولى لهم ولم يتخذوا الله مولى لهم ولم يصب عامة المفسرين مراميهم في تفسير تلك الآية مع الأسف.

والولي كلمة يشترك في مصاديقها الله سبحانه وخلقه ولكن باختلاف في المفهوم. فالولي في أصل معناه هو الذي يلي المنوي إنسانا أو غير إنسان. والذي يلي يعني الذي يقرب مع إحساس الطرفين بذلك القرب. إن هناك الكثير مما يقربن إلينا دون أن نشعر، مثل الشياطين ومختلف الطاقات الموجهة إلينا فهن لسن أولياءنا. والله قريب من كل الموجودات باعتبار الإحاطة فإذا شعروا كان وليا لهم أيضا. وإن ولاية الناس لبعضهم البعض فهو باعتبار القرب والتبادل الفيزيائي. فصديقك ولي لك لأنه يستفيد منك وتستفيد منه وتستمتعان بحديث بعضكما وبمساعدة بعضكما البعض. والنبي ولي لصحابته أيضا باعتبار قربه الفيزيائي منهم ومبادلته المصالح معهم. وأما ولاية الله فهو قريب ينفع الناس دون أن ينتفع منهم ويمد الكل بالنور والطاقة دون أن يبادلهم شيئا. ولذلك علينا بأن نواجه مكارم الله تعالى بالشكر والطاعة والحب حتى يصدق ولايته علينا ولولاه لما كان وليا لنا بل كان منعما مانحا دون أن نشعر بولايته وقربه. إن الولاية مسألة متبادلة، فإما أن تبادل وليك نفس الشعور كما هو مع الناس أو تبادله بما يستحقه من خضوع وشكر كما هو مع الله تعالى. ولذلك فإن الله ولي الذين آمنوا وليس وليا للذين كفروا بهذا المعنى.

ولكن المولى فهو ظرف للولاية باعتبار أن المرء يستنجد بولايته ويستفيد منه ويستمتع بتوجه المولى إليه. فالمولى الحقيقي هو الله الذي يمكن له أن يجير ويساعد دون توقع التعويض من عبده وأي مولى غيره فهو اتخاذ وليس حقيقة. ولذلك لم يقل الله تعالى بأن الرسول مولى لأحد بل قال تعالى بأن  الله مولى الذين آمنوا بحق جميعا في الدنيا والآخرة لأنهم آمنوا به وعرفوه وعبدوه؛ كما أنه سبحانه مولى الجميع بحق يوم القيامة. لكنه تعالى ليس مولى لمن لا يؤمن به، وغير  المؤمنين الصادقين لا يؤمنون به وحده في الدنيا فهو ليس مولى لهم ولكنهم سيؤمنون به في الآخرة فهو مولى لهم هناك بحق ولكن دون جدوى. إنه سبحانه في الدنيا يتولى أمر من آمن به في حدود ما يشاؤه تبعا لمصالحه جل وعلا، ولكنه لا يمكن أن يتولى مثوبة من آمن به في الآخرة دون أن يسبق إيمانه به تعالى في الدنيا لمانع العدالة.

وفي يوم القيامة سيقول المطلوب منه الشفاعة لمن ارتجى منه ذلك: إنك أشركتني بالقرب منك ولم يكن أحد قريبا منك غير الله تعالى، فلو قبلت طلبك لكنت مشركا مثلك إذ أشركت نفسي بالله بادعاء القرب من عبيده. لذلك فأنا أكفر بشركك فاذهب إلى ربك ليحكم لك بما تستحقه ولا تتوقع مني شيئا. قال تعالى في سورة الأحقاف: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6). كما أن الذي طلب الشفاعة سوف ييأس من المطلوب منه الشفاعة ويكفر به كما يتضح من آيتي سورة الروم المذكورتين.  والخلاصة أن الله تعالى يعتبر اتخاذ الشفعاء شركا به لأنهم يزعمون أن هؤلاء مواليهم وسادتهم وهو غير صحيح. إن الذي يملكنا هو الله وحده ولا يشاركه في مالكيته أحد من خلقه، فلا مجال لطلب الشفاعة من أحد من الخلق. ولو طلبنا ذلك فسوف نغدو خائبين أمام الله تعالى الذي يرفض الوساطة كليا كما أن الذين زعمناهم شفعاء فسوف يرفضوننا لنكفر بهم والعياذ بالله من الجهل المخيب!

الآية السادسة: سورة غافر: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) هذه الآيات الكريمة توضح دور الرسل الكرام وعدم حاجة الله تعالى إلى وساطة أحد لشدة علمه وبأن النفوس تُجزى بما كسبت تثبيتا للعدالة ودفعا للظلم، وأن الله تعالى يقضي بالحق وبأن غير الله لا يقضي بشيء، ولعل ذلك تبعا لضعف الغير وعدم علمه وعدم انطوائه على منطق الحق والعدل. وتقضي أيضا بأن الظالم لا يملك صديقا حميما ولا شفيعا تُقبل شفاعته. هذه الآيات العزيزة تنفي تقسيم الجنة والنار على يد غير الله تعالى، فالقضاء هو قضاء الله وحده وبأن غيره لا يمثل دورا في الحساب.

وقوله سبحانه: {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يُطاع} لا يعني أن هناك شفيع يُطاع بالنسبة لغير الظالمين. إن غير الظالمين يدخلون الجنة ولا يحتاجون إلى شفيع، ولكن الذي يعوزه الشفاعة هو الظالم الذي ظلم نفسه بالآثام والمعاصي وبعدم إتيان الواجبات وعدم مساعدة الفقراء واليتامى كما أمر الله تعالى أو الامتناع من الجهاد عند الحاجة. فهو الذي يتشبث بالشفاعة وليس له شفيع يُطاع. إن قول القائلين بأن الشفاعة تحل محل النقص في أعمال بعض الأشخاص الذين لم تتكامل نفوسهم حد الصلاح ولم تتضاءل حد  الفساد مردود باكتفاء القاضي العليم برحمته وعلمه فلا رحمة أكبر من رحمته ولا علم في مقابل علمه جل جلاله. فالظالمون هنا هم الذين يبحثون عن شفيع يُطاع وسوف يخيب ظنهم ولا يرون إلا الله تعالى وحده الذي سوف يقضي بالعدالة والحق بين العاقلين المكلفين من الخلق جميعا.

والله تعالى هو عادل وهو رحيم وهو قاض عالم ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور فلا يعوزه توسط الشفعاء وليس من شيمته أن يجمع المؤمنين والفاسقين في مكان واحد. إنه تعالى أقام الحياة الدنيا ليفرق بها بين الخبيث والطيب ويميزهم فيركم الخبثاء في نار جهنم ويثيب المحسنين بجنات النعيم خالدين فيها أبدا، ذلك هو الفوز العظيم.

الآية السابعة : المدثر: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) يبين الله تعالى في هذه المجموعة الكريمة من الآيات الواضحة بأن كل نفس رهينة بما كسبت ولا يذكر سبحانه شيئا عن الحب والتولي للبشر إطلاقا. إنه سبحانه يعزو فك الرهن بمكاسب النفس وليس بشيء آخر. والنفس هي الموجود التي تمثل الفرد الإنساني بحقيقته بعيدا عن مادته التي تشكل بدنه وحواسه الظاهرة المعروفة. والنفس تكسب ما يقدم لها من أعمال لتظهر عليها سلبا أو إيجابا.

ويمكننا معرفة كيفية تأثر النفس بالأعمال بالتحقيق والإمعان في سورة البقرة حيث يوضح فيها سبحانه مكاسب النفس. وباختصار فإن الحب أو البغض الموجِّه (بكسر الجيم) يؤثر في النفس. فلو أن الشخص توجه تحت دافع حبه لله ولبعض خلقه فقد أشرك بالله تعالى كائنا من كان ذلك المخلوق المحبوب، فظهر آثار ذلك الشرك على صبغة نفسه. إنه توجه تحت إرادة الله وخلقه معا. وأما لو أنه وجَّهَ نفسه تحت دافع الحب لله ولرسوله باعتبار الرسالة كان صحيحا، إذ لا فرق بين الله ورسوله حينذاك. ولكن ذلك لا يؤثر في محاسبته إطلاقا. إنه أكرم رسول الله باعتبار الرسالة واتبعه وأطاعه عليه السلام بنفس الاعتبار. إنه في الواقع أطاع الله تعالى وعبَده وحده. إن كل من يفعل ذلك، فهو لا ينتظر أي شيء من شخص الرسول لأنه ما فرّق بين الرسول وربه سبحانه. إنه أطاع الرسول ليطيع الله تعالى والرسول واسطةٌ ودليل له إلى الله تعالى فحسب. مثل هذه الشفاعة تنتهي بموت أي منهما، إما الرسول أو المطيع للرسول. وهو معنى قوله تعالى: وما أنت عليهم بوكيل.

نحن اليوم نطيع الله تعالى ونقتدي بإمامة الرسول في الصلاة لله تعالى مثلا. هذا لا يسمى طاعة للرسول الذي لو كان حيا وحاضرا بيننا لأطعناه من كل قلوبنا. إننا اليوم نصلي كما صلى رسول الله تعالى لأنه أمر المسلمين بأمر الله ليصلوا كما صلى، فكان أمره أمرا من الله تعالى، وطاعته طاعة لله تعالى. إن طاعة الله تعالى واجبة إلى الأبد أو لحين يغير المالك سبحانه أمره. ولذلك لا يجوز التدخل في طريقة الصلاة، بل يجب إتيانها كما أراد الله تعالى وعلّمها رسوله  الأمين إن شاء الله تعالى. فصلاتنا اليوم ليست تلبية لرسول الله كما أننا نحج كما حج رسول الله الذي حج كما حج إبراهيم ولكننا نقول: لبيك اللهم لبيك. لا يجوز لنا أن نقول: لبيك رسول الله لبيك ولو أنه أذَّن فينا بالحج من قبل كما فعله أبوه إبراهيم. إن محمدا عليه السلام مسلوب الإرادة، وقد توفاه الله تعالى واستلم نفسه، فلا قدرة له ولا طاعة للضعيف بالطبع. أرجو أن أكون قد وضحت المسألة حتى لا يفسرها من لا تعجبه كما اشتهى واستطاب.

وسيقول أصحاب الجحيم أنهم كانوا عصاة من قبل فرأوا اليقين اليوم. واليقين يعني الأمر الملموس والحاصل فعلا نتيجة لما ذكره الله تعالى من أعمالهم، فلا دور للشفاعة ههنا. ولذلك قال سبحانه: فما تنفعهم شفاعة الشافعين  فما لهم عن التذكرة معرضين. ولو كانت الشفاعة ذات جدوى في ذلك اليوم لقال سبحانه: فما لهم عن طلب الشفاعة معرضين (مثلا). أما أصحاب اليمين فقد دخلوا الجنة جميعا، لأنهم أصحاب الأعمال الإيجابية الذين يعبر عنهم القرآن بأصحاب اليمين. اليمين يعني القوة والطاقة والإيجاب في مقابل اللا قوة واللا طاقة والسلب؛ وليس في مقابل الضعف بمعنى قلة القوة، والعلم عند الله سبحانه. وعلى هذا فإن آية {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} لا تعني أن هناك من تنفعه شفاعة الشافعين بل تعني بأن الشفاعة لا تنفع في ذلك اليوم مهما طاب مصدرها. إن الجزاء هو تماما بمقدار المكاسب النفسية دون زيادة أو نقصان. ولو أن الله أكرم أهل الجنة بأكثر من حقهم، فذلك لا يعني أنه سيكرم الذين لا يستحقون الجنة بأكثر من حقهم أو أنه سيكرم أهل الجنة بتحرير بعض من يستحق النار لأجلهم. ولو شاء الله تعالى أن يساعد أحدا من الذين يستحقون النار بدفع النار عنه فلأنه سبحانه هو أرحم الراحمين، ولأنه سبحانه وحده جدير بأن يُكرَم  وليس الرسول أو بقية الرسل جميعا.

ولعلنا نلاحظ بأن الحديث هو بين أصحاب الجنة وأصحاب الجحيم بعد أن قضى الله تعالى بينهم وأدخل كل شخص في مكانه المناسب في الجنة أو في جهنم. وجواب أهل النار ينتهي بالآية 47 وهي “حتى أتانا اليقين” بمعنى أن القضية انتهت. وآية فما تنفعهم شفاعة الشافعين هو خطاب الرحمن لأهل الدنيا في الدنيا وليس في الآخرة. فمعناها بأنه سبحانه يريد التأكيد على أن كل نفس بما كسبت رهينة بذكر حكاية السؤال والجواب المفترض بين الفريقين في العالم الآخر. فهي للتأكيد على عدم أي جدوى للشفاعة في يوم القيامة من أساسها.

وأما مسألة الشفاعة المضافة في الآية الكريمة (شفاعة الشافعين) والتي يمكن أن يستدل بها بوجود الشفاعة فعلا. فإن الشفاعة في الواقع غير منكرة تماما لوجود الشفاعة التكوينية بيد الملائكة المقربين. ولكن الملائكة ليسوا شافعين لأحد، بل إنهم شفعاء الله إلى الناس. فالآية الكريمة تنفي جدوى شفاعة الشافعين ولا تنفي الشفاعة مطلقا. وحتى نعرف معنى شفاعة الشافعين فإننا نحتاج بأن نقرأ آيات مشابهة وموضحة من سورة طه كما وضحتها أعلاه في المجموعة الثانية، الآية الخامسة: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا (112). وسأشرحها باختصار لأنها تثبت عدالة الحساب يوم القيامة.

يظن المجرمون بأن هناك مفرا إلى الجبال فيسألون الرسول فيقول لهم الله تعالى بأنه سوف ينسف الجبال نسفا، فلا مجال للفرار. وأما السبب في نسف الجبال في منطقة الحساب وليس في كل الأرض طبعا فهو لأنه تعالى يريد القسط يوم القيامة. ولذلك فإنه يريد أن يقف الجميع في صف واحد وفي أرض مستوية دون تفاضل بينهم. كما أنه سبحانه سوف يأتي بنورة على شكل غمامة فوق الرؤوس حتى لا يكون أحد أقرب من خصمه إلى القاضي الديان جل جلاله. الكل يتبعون المنادي كما نعرف اسمه من محاكمنا الدنيوية وهو الذي عبر عنه سبحانه بالداعي. وخشوع الأصوات باعتبار ان الحاضرون لا يتحدثون بلغة واحدة وليسوا كلهم من الذين يستعملون اللغة للتفاهم فهناك الشياطين والجن والملائكة وهم لا يتفاهمون باللغة ولذلك سيكون التفاهم بالهمس القلبي وحده.

هناك سيكون هناك محامون للدفاع كما هو الحال في المحاكم المتطورة بتقدير من الله تعالى وهم الملائكة الشفعاء في الواقع الذين يعرفون قوانين الله تعالى ولكن المتهمين يجهلون تلك القوانين. إن العدالة تقتضي تعيين محامين لهم ولكنهم ليسوا كمحامي الدنيا فهو يدافعون عن المتهم في حدود القوانين الإلهية فحسب حتى لا يظن أحد بأن ربه لم يساعده في فهم القانون.

إذن هي الشفاعة المزعومة التي ينتظرها المجرمون الذين سيخيبون قطعا دون ريب. والله تعالى بما قدمه من مقدمات في الآيات السابقة، فهو سبحانه في صدد إثبات عدم جدوى شفاعة الشافعين يوم يكون المرء رهينا بأعماله. والعلم عند الله تعالى.

تم القسم الأول ويليه القسم الثاني والأخير من موضوع الشفاعة بإذن الرحمن.

أحمد المُهري

11/12/2016

#تطويرالفقهالاسلامي

https://www.facebook.com/pg/Islamijurisprudence

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.