تصحيح اخطاءنا التراثية 12 : هجرة الرسول !

تصحيح أخطائنا التراثية

ثامنا: الهجرة التاريخية للرسول عليه السلام:

quaran2
Holy koran

بُعث الرسول الأمين في مكة مسقط رأسه وعاش فيها عشر سنوات وهو رسول الله. رسولنا هو من ذرية إبراهيم عليهما السلام. نظن ظنا قويا بدون أي دليل من القرآن الكريم بأن إبراهيم وُلد في العراق وبُعث هناك حيث يعيش أناس يؤمنون بالله تعالى ويتمسكون بالأصنام وسائط بينهم وبين ربهم. وكما أظن بأن أساس اختيار الرسل هو تعليم الناس بأن لا واسطة بين العبد وربه فهو ربنا جميعا وهو معنا أينما كنا وهو أقرب إلينا من حبل الوريد. نقرأ في سورة الأعراف لسان حال الشيطان مع الله تعالى بعد أن عصاه وطرده من جنة الهدى: قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17).

نظرة بسيطة إلى ظهور القرآن وظهور الإسلام نعرف بأن الله تعالى يحب التطور ويكره التقليد والبقاء على عقائد وأفكار السلف أبا أو زعماء أو أمة. فلولا ذلك لأبقى الله تعالى الناس على توراتهم وإنجيلهم. وبكل بساطة يمكننا أن نفهم مغزى قول الشيطان وهو أن يغطي على كل جوانب البشر ليمنع عنهم التطور الفكري. لقد سمى الله تعالى سعي الشيطان للسلفية الممقوتة رجسا. قال تعالى في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ (91).

الرجس لا تعني القذارة كما فهم قليلو العلم بل تعني عدم التطور. ذلك لأن الرجس في اللغة تعني التحرك في مكان واحد مثل الرَّجّاسة. وقد أخطأ علماء اللغة في فهم الرجس عدا ابن فارس الذي انتبه إلى أن الرجس لا يعني القذر في الأساس. ولذلك قال في مقاييس اللغة:

الراء والجيم والسين أصلٌ يدلُّ على اختلاطٍ. يقال هُمْ في مَرْجُوسَةٍ مِن أمرِهم، أي اختِلاط. والرَّجْس صوت الرَّعد، وذلك أنه يتردَّد. وكذلك هَدِيرُ البعيرِ رَجْسٌ. وسَحابٌ رَجّاسٌ، وبعيرٌ رَجّاس.      انتهى النقل.

فالرجس تعني التردد في مكان واحد. واستعمل القرآن الكلمة ليعني بها توقف الحركة التطورية وهذا المعنى ينطبق على كل موارد ذكر الرجس في الكتاب الكريم. والشيطان يسعى ليقنع الناس بأن لا يفكروا ولا يتحركوا من مكان إقامتهم. الخمر والميسر والاهتمام بالذبح على النصب التي بنوها لأنفسهم والاستخارة أو الفال هي مسائل تؤدي إلى أن يتوقف الناس عن التفكر معتمدين على الأوهام والتخيلات. يتشبثون بالأماكن والأشخاص والعوائل والقوميات والأوطان. فالحل الأمثل في تلك الحالة هو أن يقدر الله تعالى للناس أن يتحركوا من أماكن إقامتهم ويهاجروا إلى أماكن أخرى ليروا بأن العلم والخير ليس حكرا على بلادهم. هكذا سيكتشف الذين يتفكرون منهم بأن الهجرة منحتهم المزيد من التوسع في الذهن وأكرمتهم ولم تبخل عليهم بالعلم والأحباب والأموال. ولنعم ما قال الشاعر العربي، وهو شعر منسوب إلى الإمام علي  ولعله يكون صحيحا:

تغرب عن الأوطان في طلب العلا      وسافر ففي الأسفار خمس فوائد

تفرج هم واكتساب معيشة       وعلم وآداب وصحبة ماجد

فهل يبخل الله تعالى على رسله والمؤمنين من عبيده أن يتطوروا؟ كلا،  وكما لا يشوبنا شك بأنه تعالى قدَّر لإبراهيم ولوط وإسماعيل ويعقوب ويوسف وموسى ومحمد عليهم السلام أن يهاجروا من مساقط رؤوسهم ليتعلم المرسلون منهم تأويل الأحاديث وهو يعني فهم حديث الناس كما يفهمه الناس أنفسهم. تأويل الأحاديث ليس مقتصرا على تأويل المنامات كما ظنوا. ولعل الهجرة كانت ضمن تقديرات الربوبية لبقية الرسل أيضا ولكننا لا نعرف عنهم شيئا. سيرى المهاجرون ثقافة أكثر من ثقافة وطنهم الأم فيتعرفون على أسس التطور الفكري وبأن الإنسانية غير محصورة في مدنهم وفي فهمهم بل كل مجموعة بشرية تنطوي على معارف ومفاهيم مختلفة أحيانا. وكيف يتأتى لرسول يريد أن يقول للناس جميعا بأنه رسول الله إليهم دون أن يتعلم أسس الحضارة ومفاهيم التطور البشري ويمارس كل ذلك؟

أراد الشيطان أن يبقى المسلمون الأوائل محصورين في مكة ومكتفين بما ينتقل إليهم من بعض المسافرين والحجيج ولكن الله تعالى أراد أن يخرجوا من مكة ليجدوا في الأرض مراغما كثيرا وسعة. ذلك رجس الشيطان وهذا تطوير من الرحمن. ولكن كيف يخرج إنسان بقامة محمد بن عبد الله الذي دعا إلى الله في بيت الله مكة وحام حوله كوكبة نيرة من عبيد الرحمن يحبونه ويذودون عنه ويدافعون عن دينه وقرآنه؟ الهجرة ضرورية ولكنها لا يمكن بدون مقدمات. يجب أن يهتز محمد عليه السلام بداية في مكانه هزات عنيفة أولا. مات عمه ونصيره أبو طالب وماتت حبيبته التي نصرته بمالها وبنفسها خديجة وأصبح الرسول في معرض المؤامرات الوحشية من أثرياء المشركين. تمت المؤامرة واتفق المشركون على أن يتخلصوا من الرسول الجديد. باتت الهجرة ضرورية ولا يحتاج المؤمنون إلى وحي ليهاجر الرسول فهو مضطر للخروج.

ليس لدينا تاريخ مدون من الذين حضروا الهجرة العظمى لنتعرف على جزئيات الهجرة وليس لنا إلا أن نفكر في ما كتبه الطامعون المجرمون من بني العباس بعد أكثر من قرن من وفاة الرسول. وبيدنا بعض الآيات القرآنية التي تعرفنا على حقيقة الهجرة فنقوم بتحليلها جميعا لنعرف الكيفية إلى حد ما ونتعرف على مغزى الهجرة بما هي أكثر دقة من الكيفيات. لنفكر في الهجرة وكيف اتفق كبار الصحابة أن يبعثوا رسولهم إلى يثرب؟ لم يقل أحد بأن هناك هجرة جماعية مشابهة لهجرة موسى والمؤمنين من قومه من مصر إلى سيناء. فالهجرة كانت فردية أو بمجموعات صغيرة. بدأت بهجرة بعض المسلمين أو سفرهم إلى يثرب وبعض البلاد الأخرى ليبلغوا الغرباء دعوة الله تعالى إلى التغيير في سبيل التطور والتقدم وليس في سبيل دحض الأديان الماضية.

وكما يبدو فإن كبار المحيطين بالرسول شعروا بالخطر المحدق بالرسول وبأن عليه الخروج بأسرع وقت. قالوا بأنه عليه السلام خرج مع أبي بكر وأبقى عليا لينام في فراش رسول الله. والقرآن ذكر شخصا واحدا مع الرسول لا أكثر. اتخذ الشيعة والسنة الخبرين لبيان الفضائل لصاحبيهم علي وأبي بكر. هي مشكلة كبيرة بأن المسلمين كغيرهم من إخواننا اليهود والمسيحيين يظنون بأن الله تعالى ذكر بعض القصص في القرآن لبيان فضائل البشر. لقد ذكر الله تعالى بعض القصص ليعرفنا على سياسته وحكمته في الناس وليس لبيان فضائل الرسل أو فضائل الصحابة. حتى موضوع تعيين الرسل أو ميلاد بعض الشخصيات البشرية ليست مذكورة لبيان فضائلهم بل لبيان ما فعله الله تعالى. أهمية الأنبياء والرسل هي أن نعرف بأن الله سبحانه لم يترك عبيده دون هدى. قال موسى جوابا لاستفسار فرعون كما نقرأ في سورة طه:

قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50). وهل علينا أن نعرف أو نحاكم الذين مضوا؟ كلا، بل نترك كل ما وكل من مضى لله تعالى. وهكذا رد موسى على فرعون بعد سؤاله أعلاه: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى (52). لسان حال موسى بأنه لم يأت ليتحدث عن الذين مضوا بل جاء ليتحدث عن الحال الموجود وعن كيفية المواجهة مع ضرورات الحياة ويهدي الناس إلى ربهم مع ملاحظة الواقع الفعلي. كان موسى عَلمانيا كغيره من الرسل الكرام. قال تعالى في سورة البقرة: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134). وكرر سبحانه الآية كلها في 141. لا سلفية عند الله تعالى ولا عند رسله بل على الجميع أن يسايروا التطور.

فمما لا شك فيه بأن هناك اجتماعا بين كبار الصحابة مع الرسول ليتدبروا أمر الهجرة. دعنا ننتقل بفكرنا إلى تلك الأيام التي خلت وندخل معهم جلسة التشاور مع الرسول وكبار الصحابة. نريد بذلك أن نتعرف على حقيقة سفر أبي بكر مع الرسول وحقيقة مبيت علي في الفراش. أبو بكر هو النصير الكبير للرسول ولا أحتمل غير أنه كان صديقا للرسول من الصبا وكان يعرفه ويعرف صدقه وأمانته ولذلك آمن به بمجرد أن عرض عليه الرسول دعوته كما قرأنا عنهما. ليس لإيمان خديجة وعلي بالرسول اهمية تعادل ما لأبي بكر. إنهما كانا يعيشان معه في بيت واحد ولكن أبا بكر لم يعش مع الرسول في بيته وآمن به. وكلما سمعناه من قصص تبرعه بتحرير المؤمنين من عبوديتهم للبشر تدل على أنه كان ثريا وكان كريما وكان محبا للرسول وللرسالة. كما أنه كان عاقلا وحكيما. إنه كان يعلم بأن الرسول لن يتعرض للموت على يد المشركين وسوف يقيه ربه ليكمل الرسالة ولكنه كان يسعى لألا يتعب الرسول ولا يخطئ في اتخاذ الطريق الأسلم إلى يثرب.

ما فائدة مصاحبة أبي بكر له؟ وهل أبو بكر أو الرسول وفي تلك اللحظات الحرجة كانا يفكران في كسب فضيلة لأبي بكر؟ وهل كان ممكنا لأبي بكر أن ينقل أمواله معه بعد أن يجمعها في ليلة واحدة؟ لم تكن أمواله نقدية مودعة في البنوك ليحولها فورا بل كانت أكثرها عينية كغيره من التجار والأثرياء السابقين. إنه حكيم واقتصادي يعرف بأن الرسالة تحتاج إلى مال فعليه بأن يمد الرسول بالمال في يثرب كما كان يفعل في مكة وليس صحيحا أن يصاحب الرسول ويترك أمواله التي جعل الله لهم قواما دون أن يجمعها. فبقاء أبي بكر في مكة هو الموافق مع العقل لا سفره مع الرسول.

وأما المبيت في الفراش، فلا أدري ما فائدة أن يبيت علي في فراش الرسول؟ لو دخل المشركون غرفة نومه ولم يروه نائما في فراشه فسوف يبحثون عنه في البيت ولو لم يجدوا أحدا فسوف ينقلبوا خائبين تاركين البيت وراءهم. ولو رأوا عليا في الفراش فإما أن يأخذوه معهم رهينة أو يتركوه ثم يفتشوا البيت أيضا. فمبيت علي في فراش الرسول معادل لعدم مبيته بل ينطوي على احتمال الخطر على شخصه ولا يجوز لأحد بأن يلقي بنفسه إلى التهلكة دون أي جدوى يُذكر. فمبيت علي في الفراش غير صحيح أيضا.

لنعد إلى القرآن ونرى كيف يذكر ربنا قصة الهجرة. قال تعالى في سورة التوبة: إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41).

هناك أمر بالنفير العام لمواجهة الرومان الذين قصدوا شبه الجزيرة العربية لكسر خشم الرسول ومن آمن به حتى لا يستقطبوا المسيحيين الموجودين بكثرة في أرجاء المنطقة العربية وما تحيط بها كما نظن و كما قالوا. هذا النفير بقوام 30000 من المسلمين كان للمباراة العسكرية مع الجيش الروماني بقوام 40000 مقاتل لكن المسلمين لم يعلموا ذلك بل استعدوا فعلا للمعركة. وحتى يُقنع الله تعالى المسلمين بالنفير أخبرهم بأن الرسول لنفسه لا يحتاج إليكم فقد نصره ربكم حينما كان وحيدا لاجئا إلى غار. فالنفير لحمايتكم أنتم من الأعداء المتربصين بكم وليس لحماية رسوله. ونصرتُهم للرسول خيرٌ يعقبه ثواب لهم فقط. ولذلك ذكر القصة في خضم الدعوة إلى النفير كما أظن.

فيجب أن يكون الرسول فعلا وحيدا غير محاط أو مقترن بأخص أصحابه الذين يدافعون عنه ليتجلى نصرة الله تعالى له. ولذلك استخفت الآية بمن مع الرسول بأنه إضافة عددية للرسول فحسب وكان يخاف على نفسه. لو كان أبو بكر معه لخاف على الرسول ولما ظهر أي خوف على وجهه حتى لا يتأثر نبيه الذي كان مستعدا لأن يفديه بنفسه وماله. لم يكن أبو بكر بحاجة ليهدئه الرسول بقوله: لا تحزن. إنه حريص على رسول الله وينسى نفسه حينما يرى الرسول في خطر كما كان غيره من كبار الصحابة. ولا تنطوي الآية على أي تمجيد لمن كان مع الرسول في الغار وسأرد على مقولاتهم الخاطئة في هذا الصدد.

كل ظني بل أكثر من الظن بأن الصحابة اتفقوا على أن يبعثوا دليلا يعرف مختلف الطرق مع الرسول ليسافر إلى يثرب وأرسلوا قبله من يبلغ أهل يثرب بالخبر ليستعدوا. يجب أن يصل المبشر في وقت قريب من وصول الرسول ليضمنوا بأن الرسول اجتاز مرحلة الخطر فلا يجدي سعي جواسيس المشركين أن يبلغوا المشركين بسفرة الرسول ووجهة سفره. كان عليهم أن يختاروا طرقا غير معروفة ولم يكن وجود أبي بكر مجديا لمعرفة الطرق كما أظن.

وأما القصص الخرافية التي افتروها لإثبات المعجزة وهي الحمامة التي باضت والعنكبوت التي نسجت بيتها على باب الغار فهي مجرد وهم وقصص تفيد الأطفال أو العوائل في ليالي الشتاء الطويلة. هي ليست في القرآن ولا معنى لها. كلما نعرفه من الآيتين القرآنيتين هو أن الرسول لجأ إلى الغار ولذلك خاف صاحبه. ولا أظن بأن اللجوء كان مبرمجا من قبل بل لجأ إليه الرسول لأنهما كما أحتمل سمعا صوت حوافر الفرس فظنا بأن المشركين يبحثون عنه عليه السلام. واللجوء إلى الغار ليس سليما في مثل هذه الحالات إذ لا سبيل للفرار من الغار ولا للدفاع ويسهل على العدو أن يتخلص من اللاجئ إلى الغار. لكن الله تعالى يريد أن يبدي لنا الإعجاز السماوي فهداهم إلى الغار دون أن يشعروا.

تلك الحكاية مشابهة لحكاية سفينة نوح. فاللجوء إلى البحر حين الأعاصير بمثابة انتحار وركوب للموت، واللجوء إلى الجبال هو الأعقل كما قال ذلك الولد. لكن الله تعالى يريد أن يثبت لهم قدرته على حمايتهم في وسط البحر الهائج. ولذلك قال تعالى في سورة هود: وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43). الموج شديد القوة والسرعة أغرق الولد الواقف على الشاطئ ولكنه لم يغرق السفينة في البحر الهائج! هذا حاصلُ بسم الله مجراها ومرساها.

فكل الحالات المذكورة في آية التوبة إعجازية تدل على أن الرسول كان على عين ربه كما كان موسى وهارون من قبل على عين ربهما يسمعهما ويراهما. بالطبع أنه تعالى يسمع ويرى كل شيء ولكننا نتحدث عن السمع والرؤية المصحوبة بمساعدة الناظر والسامع عز اسمه. فلننظر إلى كل مقاطع الآية الكريمة:

إلا تنصروه: يعني إن لا تنصروا الرسول ليستكمل دعوته ويعد العدة للمواجهة مع العدو كما أراده له ربه.

فقد نصره الله: تتحدث عن نصرة سابقة بغية إثبات أن النصرة المكتوبة للرسل حقيقة واقعة بدليل قصة الهجرة والغار.

إذ أخرجه الذين كفروا: ليس إخراجا مباشرا بل تسبيب للخروج. والذين كفروا هم الذين كفروا بالدعوة الرسالية الجديدة.

ثاني اثنين: يعني بأنه عليه السلام لم يتمكن من أخذ الذين يحبونه وينصرونه معه فذهب بلا ناصر بل كان معه شخص لا يفيده عند المكاره بل هو إضافة عددية فحسب. لم يمهله المتآمرون ليعد مجموعة ناصرة له معه بل كان بمفرده لا ينصره إلا الله تعالى.

إذ هما في الغار: يعني نصره الله تعالى إذ اضطرا للدخول إلى مكان يهددهم بالموت وهو الغار. لم يجدا بدا من عدم تجاهل الغار وهما يشعران بالخطر المحدق.

إذ يقول لصاحبه لا تحزن: يعني بأن الذي معه لم يكن ناصرا له ولا مستعدا للدفاع عنه وكان حزينا على نفسه أنه تقبل المشاركة في تلك السفرة المليئة بالمخاطر. وهذا مورد آخر من موارد وحدة النبي بلا ناصر ولا معين ليتحقق نصر الله تعالى له في أضعف حالاته.

إن الله معنا: حقيقة يؤكد عليها الرسول بإنَّ التأكيدية ليكون يقينه بمثابة دعاء إلى ربه لينجيهما معا من كيد الأعادي. كان صعبا جدا على رسول الله أن ينال حماية الله تعالى ولا ينال صاحبه الحماية فدعا ربه هكذا بأن يحفظهما معا، كما أظن والعلم عند المولى. والذين ظنوا بأن تلك الجملة تعني بأن الذي مع الرسول هو أفضل من الأنبياء بدليل أن الرسول هو أفضل الرسول فمن معه أيضا يحمل نفس الصفة؛ فهم حمقاء جاهلون. ليس الرسول أفضل من الأنبياء السابقين ولم يقل الله تعالى ذلك أولا. ثم إن تلك الجملة لا تعني بأن المصاحِب يحمل نفس صفات المصاحب بفتح الحاء. والجملة بنفسها تدل على جهلهم حيث تقول إن الله معنا، فهل يعني ذلك بأن الله تعالى الذي هو معهما هو مثلهما؟ أتمنى أن يأتي يوم يدرك فيه المسلمون بأن الذين ظنوا فيهم العلم، فهم كانوا قليلي العلم وعليهم أن يفكروا بأنفسهم.

فأنزل الله سكينته عليه: يظن البعض بأن الرسول لم يكن محتاجا إلى السكينة فأنزل الله السكينة على صاحبه. هذا خطأ فاحش أيضا. الكل يحتاجون إلى السكينة ولا سيما في مجالات الخوف. قال تعالى في سورة الفتح عند الحديث عن فتح مكة والهواجس التي تزعج الساعين لدخول بيت الله تعالى: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26). وأظن بأن فتح مكة مع كل هواجسه أقل خطرا من الوقوع وحيدا في غار مع شخص لا يهتم بالرسول!

وقال تعالى في سورة التوبة نفسها: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ (26). فلا أساس لمن ادعى بأن الرسول في الغار لم يكن بحاجة إلى السكينة. لكن المسألة التي لم ينتبهوا لها هي أن السكينة من الله تعالى لا يمكن أن تنزل لغير الخالص من المؤمنين. قال تعالى في سورة الفتح: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5). فإنزال السكينة مقدمة للإيمان المضاعف الذي يستحق معه صاحبه الفوز بجنات النعيم والنجاة من عذاب الخزي يوم القيامة. ولذلك لم ينزل الله تعالى السكينة في الغار على ذلك الدليل الذي لم يهتم برسول الله ولا أظن بأنه كان مؤمنا بالرسالة. حاشا أبا بكر أن يكون صاحب رسول الله في الغار.

والواقع أن الرسول كان خائفا على نفسه بالطبع وخائفا على صاحبه أيضا لأنه غريب عنه فلو أصابه كيد بسببه فإنه سوف يشعر بالخجل من أهل ذلك الشخص. ولذلك فإنزال السكينة عليه تكفي أولا لأن ينجيه ربه من كيد الأعادي ونجاته نجاة لصاحبه أيضا لأن المشركين يريدونه هو ولا يريدون صاحبه. ثم إن إنزال السكينة عليه يخرج الخوف على صاحبه من قلبه الشريف والعلم عند المولى عز اسمه.

وأيده بجنود لم تروها: كل تجمع فيه تعاون وتعاضد يسمى جندا وكل تفعيل وتنشيط للقدرات بواسطة التعاون والتعاضد يسمى تجنيدا كما أظن. والله تعالى الذي له جنود السماوات والأرض فهو يملك كل القدرات البشرية والملائكية والجنية وغيرها كما يملك كل القدرات الفيزيائية والكيميائية وغيرها كما أنه تعالى يملك كل الوحدات الطاقوية والإشعاعية بمختلف تسمياتها وأنواعها وهو القادر على أن يجمعها أو يفرقها ونحن لا نعلم عن جنوده إلا قليلا. ثم إنه سبحانه يتحدث في الآية الكريمة عن جنود جندها لمساعدة رسوله ونحن لا نراها كما لم يرها رسولنا بظني. حسبنا أن نعلم بأن الله تعالى ينصر رسله ويدفع عنهم كل كيد بمختلف الوسائل التي يملكها وليس سهلا أن نفكر في الجنود التي وصفها ربنا بأننا لم نرها. هذا دليل واضح بأن أبا بكر وهو جندي قابل للرؤية ومدافع عن الرسول لم يكن موجودا مع الرسول ولذلك قال سبحانه بأنه أيد رسوله بجنود لم تروها. والعلم عنده سبحانه.

وجعل كلمة الذين كفروا السفلى: تدل الجملة الكريمة على سعي الذين جحدوا رسالة رسوله للتغطية على الرسالة بكل الوسائل المتاحة لهم. لقد آذوا وقتلوا أعوانه وأنصاره الذين آمنوا به من قبل كما أنهم اضطروه للهجرة ولم يتركوه حتى في هجرته بل سعوا لقتله في الطريق. كانت كلمتهم القضاء على رسالة السماء في الواقع ولكن الله جعل كلمتهم وإرادتهم تحت إرادة السماء. بمعنى أن الله تعالى لم يقدر لهم الظهور والاستفادة من القدرات الطبيعية الممنوحة لهم. ذلك لأن إرادة السماء فوق إرادة غير الله تعالى، فوضح الله تعالى تلك الحقيقة هكذا:

وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم: الله تعالى هو إله حقيقي يدير كل الممكنات بالقانون الإلهي الصارم فكلمته التي تنبثق عن إرادته هو دائما الكلمة العليا التي تضعف أمامها كل إرادة وتنهار كل قوة. ذلك لأن كل القدرات التي نراها عند غير الله تعالى سواء البشر ذوي النفوذ أو ذوي القدرات البدنية وكذلك الحيوانات والجن والأرواح القدسية والملائكة بمختلف أنواعها مضافا إلى القدرات الفيزيائية والطاقوية، كلها عاجزة عن المواجهة مع القوة الحقيقية في الوجود والمهيمنة على كل الممكنات. بل إن كلها تستجيب لأمر الله تعالى دون أن تشعر وتنفذ خطط السماء في ملك السماء جل جلاله. فالله تعالى عزيز لا يُغلب وحكيم يُحكم كل ما يريد فلا يمكن قهره إطلاقا. ولنعم ما قالت الجن ردا على سفيههم الشيطان كما في سورة الجن: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن نُّعجِزَ اللَّهَ فِي الأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَبًا (12). فهو سبحانه الذي يملك الأرض وما فيها كما يملك السماء وما فيها ويملك كل شيء بلا استثناء. جل جلاله.

نصر الله تعالى عبده ونقله سالما مرتاحا من مكة إلى يثرب. يقول المؤرخون بأن أهل المدينة استقبلوه بالزغاريد وبأن النساء كن يرددن الأنشودة الحماسية البديعة التالية:

طلع البدر علينا    من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا   ما دعا لله داع

أيها المبعوث فينا     جئت بالأمر المطاع

جئت شرفت المدينة       مرحبا يا خير داع

فكرت مليا في تلك الأشعار المعبرة ليلة ذكرى الهجرة التي مضت قبل أسابيع وأنا أستمع إلى مغنية مصرية جميلة الصوت والصورة من التلفزيون الرسمي للحكومة المصرية. وبعدها ذكر الإخوة الكرام أصحاب العمائم العظمى مقولاتهم التي لم تعطني معنى دقيقا للهجرة مع الأسف. تلك المغنية لم تعلق شيئا وإنما سعت لتصوير لحظات استقبال القائد العظيم المبعوث رسولا على البشرية ولكن الإخوة المكرمون كانوا يعلقون على الهجرة ويتحدثون بلغة سلفية لا تناسبنا نحن ولا تنفع غير المسلمين إطلاقا. فكرت بأن هجرة الرسول كانت دافعا قويا للمزيد من الفهم لرسالة السماء ومعها المزيد من الذين يتقبلون دين الله تعالى. فلأترك مقولات الإخوة الإكرام مكتفيا بالدعاء لهم وللجميع أن يقدر الله تعالى لهم المزيد من الفهم لحكايات الرسالة المجيدة ومنها حكاية الهجرة العظمى.

يقال بأن النساء غنين الأشعار ويقال بأنهن والرجال معا استقبلن الرسول العظيم بتلك الأنشودة البسيطة والمعبرة. أليست تلك مظهرا من مظاهر نصرة الله تعالى لرسوله بجنود لم يروها. إنه تعالى أدخل حب الرجل الكريم في قلوب أهل يثرب وهو جند مؤثر لا يمكن لنا رؤيته. عبر أهل المدينة عن الطلعة البهية للمصطفى بالبدر إشارة إلى النور البارد الذي ظهر بين الطرق الجبلية في المنطقة التي يودعون فيها الحجيج القاصدين مكة احتمالا.

اكتفوا بذكر المحيا البهي للرسول لحظة تجلي وجهه المضيء ثم انتقلوا إلى ربهم ليشكروه. لم يشكروا الرسول وإنما اكتفوا بمدحه وشكروا ربهم على كل رسول يرسله إلى البشرية ليدعوهم إلى الله تعالى. المقولة تنطوي على معنى عميق وكأن هناك إلهاما سماويا علّمهم أن يهتفوا هكذا. الشكر دائما لله على أنه أرسل الرسل الكرام فكأنهم يقولون لربهم بأنهم استقبلوا رسولَه لأنه رسولُه. الاهتمام بالله تعالى مالك الملك وهادي المؤمنين وحده وأما الرسول البشري فهو مكرمة من الله تعالى لهم. وبعد الشكر الواجب لله تعالى خاطبوا الرسول خطابا رساليا وليس خطابا شخصيا. لم يقولوا يا محمد أو يا ابن عبد الله أو يا أيها الهاشمي وما شابه ذلك. بل قالوا له أيها المبعوث فينا. يقصدون بأنهم يحبون ربهم ويعبدونه وحده ويطيعون أمره الذي جاءهم عن طريق رسوله المبعوث فيهم. فهو عليه السلام جاءهم بالأمر المطاع وليس أمره الشخصي مطاعا بقدر أمره الرسالي.

أما بعد هذا فبما أنك رسول ربنا فجئت لتشرف المدينة. فمرحبا بك بأنك خير من يدعو إلى الله تعالى. كل الشكر وكل الفضل ينسبونه إلى أهل الشكر وأهل الفضل جل جلاله ويكرمون أخاهم محمدا باعتباره رسول ربهم. لا أدري هل لاحظ الإخوة بأن الأشعار خلت من أية إشارة إلى العروبة وقريش وبني إسماعيل وإبراهيم وحتى إلى بني البشر. مرجع الشكر والفضل كله هو الله تعالى فكأنهم يستقبلون بريد السماء وهو الذي انتظروه بفارغ الصبر فقرت أعينهم بشهادة ذلك اليوم العظيم. وأما الذين قالوا بأنها ليست أنشودة الهجرة فليس لي إلا أن أضحك على عقولهم. ظنوا جهلا بأن المسلمين استقبلوا فارسا انتصر في الحروب والغزوات كما يستقبل الجاهلون ملوكهم وزعماءهم بعد الانتصارات العسكرية. الحديث كله عن الدعوة إلى الله تعالى ولا ذكر في تلك الأنشودة عن أي نصر عسكري. لقد جعل الله كلمته العليا كما جعل كلمة الذين كفروا السفلى. لم يغتنم مشركو مكة فرصة ظهور الرسالة المجيدة في بلادهم فأبدل الله تعالى رسوله مكانا آخر دون مستوى مكة ولكن الأناسي الذين يسكنون المدينة هم الذين يشتاقون إلى الله تعالى ويستقبلون رسالاته. والإنسان وما شابهه هم سبب خلق الكون العظيم الفعلي كما أنه سبب إنشاء النشأة القادمة القابلة للبقاء الأبدي. ليس للأرض أهمية عند الله تعالى إلا بقدر ارتباطه بالمختارين من خلقه القادرين على عبادته. إن أهمية مكة باعتبارها ورشة رب العالمين لخلق الإنسان فها هو الإنسان في المدينة أكثر إنسانية من الإنسان في مكة. فلينتقل رسول الله تعالى مهاجرا مكة إلى مدينة المسلمين يثرب. مدينة المحبين لله تعالى والمطيعين لأمر الله تعالى الذي وصلهم عن طريق الرسول.

وهكذا فإن عملية الهجرة نجحت نجاحا باهرا في توثيق رباط المسلم بربه العظيم وظهرت آثارها الطيبة فالدور الآن لبقية المسلمين أن يهاجروا من حضرة المشركين إلى حاضرة المسلمين. قال تعالى في سورة الأنفال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75).

لم يكتف الله تعالى بإبعاد رسوله عن مكة المحرمة المشرفة بل أمر المسلمين القادرين على الهجرة أن يخرجوا من مكة ويقصدوا أرض الله تعالى الواسعة. هذه حرب مع السلفية وحرب مع البقاء على القديم وحرب على التركيز في المكان مهما عظم شأن ذلك المكان. وفوق ذلك أمر المسلمين أن يتوجهوا صوب بيت المقدس في صلواتهم وعين القدس قبلة لهم بدلا عن الكعبة. بالطبع فإن أهل العلم يعلمون بأن القدس مكان مقدس ولا قدسية لمكة. فمكة الخير مكان محرم بمعنى أنه متحف ينطوي على آثار قديمة لخلق الإنسان والأنعام الثلاثة الصغار فلا يجوز نقل شيء من ثوابتها الأرضية ولا يجوز تدميرها.

وبما أن الهجرة أمر رباني فإن الله تعالى ضمن للمهاجرين الذين أطاعوا ربهم الفوز بكل النتائج الأخروية إن فاجأهم الموت قبل أن يكملوا عملية الهجرة. قال تعالى في سورة النساء: وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (100). وقع أجره يعني بأن الأجر قد ثبت له لأنه باشر تنفيذ نيته ولكن الموت لم يمهله فلن ينقص الله تعالى من أجره شيئا. وفوق ذلك فإنه سبحانه لن يفرق بين الذي مات في طريق الهجرة أو الذي قُتل وهو إشارة إلى الذي قتل في سبيل الله من المهاجرين الذين لبوا دعوة ربهم لقتال المشركين بعد أن أذن الله تعالى بذلك كما أظن. وحينما نمعن في الآية التالية من سورة الحج فإننا نعرف بأن كرم القدوس يقتضي بأن يُخرج كل شعور بالنقص من قلب المهاجر الذي سيرى نفسه يوم القيامة في صف المجاهدين في سبيل الله وهو لم يخض معركة مع أعداء الله تعالى.

قال تعالى في سورة الحج: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59). المُدخل الكريم تعني الدخول دون حرج. فالكرم في واقع معناها تعني العطاء بدون انتظار المقابل. ولذلك وصف الله تعالى نفسه بالكريم باعتبار أنه لا ينتظر المقابل من أحد كما يوصف بها الحجارة الكريمة لأنها تعطي لصاحبها رونقا وراحة وبطبيعتها لا تنتظر المقابل. ولكن الدخول الكريم لأولئك الطيبين الذين ماتوا في طريق الهجرة فهو نوع آخر من عدم انتظار المقابل. المعنى مفعولي وليس فاعليا وهو يكمن في أن الشخص الذي أدخله الله تعالى ذلك النوع من الدخول ما كان ينتظر ذلك لأنه لم يكمل عملا يستحق معه ذلك الدخول. فالآية الكريمة بظني تشير إلى أن الله تعالى يُخرج الحرج من قلب ذلك المؤمن الذي قصد بكل إخلاص أن يطيع ربه حتى النهاية ولكن الموت فاجأه فسيعطيه ربه يوم القيامة نفس أجر الذي أكمل الطاعة حتى القتال مع أعداء الله والموت في سبيل الله. ذلك لأن الله تعالى لا ينظر إلى النتائج يوم القيامة بل ينظر إلى النوايا النفسية لعبيده و يكافؤهم أو يعاقبهم على نواياهم النفسية. ولنعلم بأن هذا النوع من التعامل خاص بالله تعالى ولا يجوز لنا أن نتعامل مع الناس بمثل ما يتعامل ربنا معهم يوم الحساب. إنه تعالى أوجد هذه النشأة ليميز بين الخبيث والطيب من عبيده فسوف يجزي ويجازينا على نفسياتنا وليس على أعمالنا.

إنه سبحانه يؤكد تعامله مع نفوسنا في الآية التالية من سورة آل عمران وسأذكرها مع بعض ما سبقتها من آيات لنتعرف على سياقها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ ِلأُوْلِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (192) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195).

فأولو الألباب كانوا موجودين قبل ظهور الرسالة المجيدة وكانوا رجالا ونساء يتفكرون في خلق السماوات والأرض وفي خلق الإنسان وتميزه عن بقية الحيوانات بالمرونة في قيامه وقعوده وعلى جنوبه. هم أذعنوا لدعوة الرسول بمجرد أن سمعوا منه ذلك لأنهم كانوا يفكرون في تلك المفاهيم وكانوا يفهمونها والرسول الأمين نطق بما كانوا يؤمنون به فتقبلوه أحسن قبول. وحينما نفكر في أن المقاتلين القدماء كانوا لا يشركون النساء معهم في القتال ونرى بأن الله تعالى لا يفرق بين أولي الألباب ذكورا وإناثا ويعدهم جميعا جزاء مشابها نعلم بأنه تعالى لا ينظر إلى نتائج الأعمال  ولا إلى إمكانيات الأفراد بل يلاحظ نفسياتهم لأن الآخرة دار جزاء للنفوس وليس دار جزاء للأعمال. إنما الأعمال دلائل على النوايا النفسية فقط. والعلم عند المولى عز اسمه.

بدأنا نشعر بأن الهجرة ليست هجرة من بلد إلى بلد بل هجرة إنسان من العمى والضلال إلى الهدى والنور. فلننظر إلى وصفه تعالى للذين هاجروا من مكة وجمعهم مع الذين لم يهاجروا من مكة لعلنا نفهم المقصود من الهجرة بحقيقتها. قال تعالى في سورة التوبة: وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100). هاتان الآيتان وما قبلهما وما بعدهما تتحدث عن الأعراب وهم أهل البادية أو الذين لم يتحضروا في المدن. هناك من الأعراب من هم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والتابعين. بالطبع أن آية السابقين تشير إلى مجموعة طيبة من المؤمنين كنماذج ولا أظن بأن هناك كرامة خاصة لهم لا يمكن لأحد أن ينالها. فكل المكارم الإلهية متاحة لكل الناس بلا استثناء.

ولو أنه سبحانه وبمقتضى الزمان والمكان شرف بعض الناس بالنبوة أو أرسلهم إلى قومهم فهذا لا يعني بأن بقية الناس محرومون من تلك الفضيلة. كل إنسان يمكنه أن يسعى ويصل إلى ما وصل إليه الرسل الكرام من كرامة عند الله تعالى فيعيش في الآخرة مع الأنبياء والرسل دون أي فرق بينه وبينهم. ولكن المشكلة تتعلق بنا نحن الذين لا نرضى بأن تكون نشاطاتنا قربة إلى الله تعالى بل نحن نشرك البشر في أهدافنا. نحن نسعى أن نكسب مكرمة بشرية من الناس ولا نكتفي بكرامة السماء وهي التي تحرمنا من أن نصل درجة الأنبياء. فالعلة فينا وليس الله تعالى بخيلا على أحد من عبيده الذين خلقهم بيده.

فالآية 100 الكريمة تتحدث بالمثال عن واقع سماوي يوضح كيفية تعامل الجبار مع عبيده إذا ما استجابوا لربهم وأطاعوا أوامره التي تمثل واقع الحياة وتعطي أكمل وأزكى طريقة للتعامل مع قضاياهم ومشاكلهم وكذلك طريقة الحكم والدفاع والقضاء والتربية والتعليم. لا نرى في القرآن بيانا واضحا للاقتصاد والمال والتجارة والصناعة والزراعة فهي شؤون بشرية متغيرة ولكن القرآن يتناول كثيرا من المسائل التي ترتبط بعلاقات الناس ببعضهم البعض وعلاقاتهم بربهم. والهجرة التي أمر الله تعالى بها تعتبر من أغرب المسائل التي حصلت في تاريخ البشر. هناك هجرات كثيرة حصلت وتحصل هروبا من الظلم ولكن المهاجرين لا يعودون منتصرين نصرا ساحقا. لكن الهجرة من مكة إلى يثرب كانت هجرة مثمرة غيرت مفاهيم القدرة لدى كل المهاجرين بحيث أن السلطة بقيت في العوائل المكية عدة قرون وتوسعت حكوماتهم لتشمل كل شبه الجزيرة واليمن والشامات ومصر وتركيا وبلاد فارس وما بين النهرين ووو. هذه هي نتيجة تبادل المعلومات التي حظي بها المكيون دون أهل يثرب. هذه هي فائدة الهجرة دنيويا ولكن الآية الكريمة رقم 100 تتحدث عن الفوائد عند الله تعالى.

ولعل المقصود من إنزال تلك الآية العظيمة هو بيان أن الفرص للتطور والتقدم متاحة للجميع والله تعالى يساعد القروي والبدوي والحضري على حد سواء. كما أنهم جميعا قد يرضى الله عنهم فيُرضيهم بفضله. فالسابقون الأولون الذين استجابوا لأمر الله تعالى ونفذوا أمر الهجرة بعقلانية وحكمة وخرجوا من مكة وهم سواعدها ومفكروها والذين استقبلوهم برحابة صدر من أهل المدينة هم جميعا مرضيون عند الله تعالى. وهو سبحانه لا يفرق بين البدوي والحضري وبين الأسر الكبرى والأسر الصغيرة وبين القوي والضعيف وبين الذكر والأنثى.

حتى الذين اتبعوا السابقين من المهاجرين والسابقين من الأنصار فهم يحظون برضوان ربهم كغيرهم. لكن القوة الدنيوية التي كسبها أهل مكة فاقت مكاسب أهل المدينة. لنقرأ الآية التالية من سورة الممتحنة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10).

إنهن المهاجرات من مكة إلى يثرب اللائي فررن من أزواجهن من المشركين، وقد ألحقهن الله تعالى ببقية المهاجرات اللائي جئن مع العوائل المهاجرة من السابقين الأولين. نلاحظ أن تلكم المهاجرات وبعد الإقامة في يثرب وبعد أن مررن بقسوة الهجرة صابرات أصبحن قادرات على أن يهدين غيرهم من الرجال والنساء. والآية التالية من نفس السورة برأيي المتواضع تتحدث عن واجبات المهاجرات حين العودة إلى مكة بعد فتحها: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12). الدخول في الإسلام لا يحتاج إلى مبايعة والله شهد بإيمانهن قبل أن يتحدث عن مبايعتهن مع الرسول. تلك البيعة تعبر عن المهمات الوظيفية التي أخذنها على عواتقهن وهي ترتبط بالبيوت في مكة. هن النساء اللاتي يسعين للدخول في بيوت المكيين بعد فتح مكة ليقدمن لهم تعليمات الإسلام. ذلك لأن الصحافة والإعلام الحديث لم تكن متوفرة آنذاك. فالمهمة قامت بها النساء المكيات اللاتي هاجرن إلى المدينة وتعلمن الكثير من أصول التعليم وأصول الإسلام ثم دخلن بيوت المكيين ليعلمن الرجال والنساء والأطفال أصول النظام الذي يديره رسول الله عليه السلام ويعلمنهم القرآن وأحكام الله تعالى. ولذلك يبايعن الرسول على أن لا يظلمن أولادهن الصغار كما لا يزنين مع الرجال الذين يدخلن بيوتهم للقيام بمهمة نشر الإسلام.

حينما نمعن في مثل تلك الآيات نعرف بأن الله تعالى قدر لهم جميعا الهجرة ليغيرهم و يطورهم ويجعلهم قادرين على تغيير أمتهم والقيام بمهمة الرسل في البيوت والتجمعات البشرية كلها. أولئك المؤمنات تفوقن على غير المهاجرات بفضل الهجرة المدروسة والمفيدة والمقدرة من الله تعالى لبناء الكيان الإسلامي العظيم الذي بقي حتى يومنا هذا قويا محكما وجذابا على الرغم من كل المساعي الشريرة ضد الإسلام من المسلمين ومن غير المسلمين. هكذا أظهر الله تعالى هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون.

وهكذا فإن عملية الهجرة قد تمت بهجرة الرسول وحده فأصبح المسلمون في مكة كاليتامى الذين فقدوا أباهم فكانت الهجرة الفردية دافعا قويا للهجرة الجمعية من مكة وهكذا فإن الله تعالى قدر للمهاجرين الأولين علما وآدابا وصحبة ماجد، والسلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاته.

أحمد المُهري

26/11/2016

https://www.facebook.com/Islamijurisprudence/

 

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.