عن المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم !

منذ نحو شهرين أو يزيد؛ دار حوار بيني وبين الأخ الفاضل أحمد المهري.
دار الحديث حول السؤال المهم التالي: هل الحرف العربي بمفردة له دلالة، أم أنها أصوات اعتباطية؟ بتعبير آخر: هل عندما ننطق باللفظ “فَعَلَ “، وهي تتكون من ثلاثة حروف الفاء والعين واللام، فهل يكون لكل حرف من الحروف الثلاثة معنى (= دلالة) مستقل، ويكون المعنى (= دلالة) الإجمالي للكلمة هو مجموع الدلالات لكل الحروف؟لا يستطيع إنسان أن يفكر في هذه المشكلة ويجيب عن هذه الأسئلة إلا أن يمر بسؤال احتار فيه علماء اللغة إلى وقتنا الحاضر. والسؤال هو: كيف نشأت اللغة الإنسانية؟ فمن المعروف إن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يتواصل مع الآخرين بلغة فائقة التطور، فهي تتكون من أصوات (= حروف)، ثم كلمات (مكونة من حروف)، ثم جمل لها دلالة يفهمها المتحدثون من بني البشر. فكيف نشأت اللغة إذا؟ وضع اللغويون أربعة نظريات، وهي – باختصار شديد:
النظرية الأولى: اللغة الإنسانية إلهام إلهي هبط على الإنسان فعلمه النطق وأسماء الأشياء.
النظرية الثانية: بالتواضع والاتفاق وارتجال ألفاظها ارتجالا.
النظرية الثالثة: ترجع اللغة إلى غريزة خاصة زود بها في الأصل جميع أفراد النوع الإنساني للتعبير عن مدركاته بأصوات مركبة ذات مقاطع، كما زُود باستعداد فطري للتعبير عن انفعالاته بحركات جسمية وأصوات بسيطة.النظرية الرابعة: نشأت اللغة من تقليد الأصوات الطبيعية … والتعبير الطبيعي عن الانفعالات، وأصوات الحيوان، وأصوات مظاهر الطبيعة الأخرى.[ أخذت هذه النظريات من كتاب علم اللغة، د. علي عبد الواحد موافي، نهضة مصر 2004، ص 98 من النسخة الإلكترونية. والكتاب موجود على الانترنت] .
بالنسبة لي لم أفكر في هذه القضية الفكرية قبل ظهور معجم في 2012 م يسمى “المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم”، والمعجم موجود على الانترنت لمن يحب البحث عنه والاطلاع عليه والاحتفاظ بنسخة الكترونية منه. كان هذا المعجم يعرض تفسيرا لألفاظ القرآن الكريم بأسلوب مغاير لما تعودنا عليه سابقا، ويمكن الاطلاع على أسلوبه المتبع من الصفحات الأولى من المعجم تحت عنوان بين يدي المعجم، أو قراءة الملحق الذي كتبته عنه ومرفق مع هذه الرسالة. المهم أني أعجبت بهذا الأسلوب وأردت أن أشارك الأخ الكريم أحمد المهري والأخ الكريم قصي الموسوي في مجموعة المودة ومركز تطووير الفقه الحوار في هذا الموضوع، فأرسلت لهم رابط لكتاب يسمى “فقه الحروف”. لم يكن هذا الكتاب الأخير يدعم نظرية دلالات الحروف الواردة في المعجم المؤصل؛ إلا أنني أردت فتح الحوار في هذا الموضوع الشيق المهم. ولكن كانت المفاجئة. لقد كان أخونا وشيخنا الكريم أحمد المهري من الذين يعتقدون بفساد هذا الأسلوب وينكر تماما أن للحروف العربية دلالة، وبالتالي دار بيني وبينه حوار في أكثر من رسالة، طلب مني مشاركة الآخرين في الحوار، وها أنا أفعل ذلك، ولكن بعد دراسة للموضوع. فقد طُلب مني كتابة شيء عن المعجم الاشتقاقي المؤصل وكنت مشغولا في دراسة هذا الموضوع، ووصلت إلى نتيجة مفادها إن اللغة العربية قد نشأت بالفعل على مراحل بدأت بثنائية الأفعال ثم تطورت إلى الثلاثية، وأترك القارئ الفضيل أن يطلع على ما كتبت ويتفكر فيه ويبين ما يوافقني عليه أو ما يعارضني فيه، وأعد الجميع بموضوع غاية في الإثارة والأهمية من حيث المساعدة في تفسير القرآن، خاصة الآيات العلمية فيه. وبالمناسبة فإن ما كتبت ينهي مشكلة كانت قائمة ويجيب عن سؤال لم نقدم الدليل على صحة الإجابة عليه، والسؤال هو : هل يحمل القرآن الكريم بعض التعليم العلمي للبشر؟ أم إن القرآن كتاب أمي نزل على قوم أميين فليس من المعقول أن يتحدث عن علوم ونظريات علمية لم يكتشفها الإنسان إلا بعد أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان.أرجو من القارئ الكريم الذي يريد المشاركة في هذا الحوار أن يقرأ (المحتوى ادناه ) المرفق بالرسالة، وهي بعنوان “عن المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم”، ولنبدأ بعدها الحوار.
مع تحياتي محيي الدين عبد الغني .
WORDS.jpg
 
عن المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم
تمهيد
لي حكاية مع هذا المعجم اللغوي أود أن أرويها باختصار. في عام 1980 للميلاد، وتحديدا في شهر يونيو قررت قراءة القرآن الكريم كله لا لحصد الحسنات؛ بل كانت هذه المرة للدراسة والتفكر فيه. كنت أريد أن أخرج بعدها بقرار يحدد صلة هذا الكتاب المكنون بالله سبحانه وتعالى. كنت ساعتها في سنواتي الأولى للهجرة، وكنت لأول مرة أعيش بين من يسميهم القرآن الكريم “أهل الكتاب”، وهم الذين كانوا – ومازالوا- التشكيك في القرآن ونسبته إلى محمد صلى الله عليه وسلم ديدنهم. أتممت قراءة القرآن الكريم كاملا لأول مرة، فإذا بإحساس يتولد داخلي يقول إن القرآن الكريم يتحدث بلغة خاصة، لغة نصفها بأنها السهل الممتنع. والسهل الممتنع من الكلام هو ما تفهم ظاهر نصه بسهولة ويسر، لكنك لا تستطيع الإحاطة بكل مكنونه. وهو الذي لو أردت إعادة بلورة معانيه فلا تستطيع، ويبقى في داخلك إحساس بأن هناك بعدا دلاليا آخر تتمنى أن تدركه. أعدت القراءة مرة ومرات فازداد ذلك الشعور، وعندها تولدت عندي عقيدة بأن هذا الكتاب الكريم، بالرغم من أنه بلسان البشر، إلا أننا لا يمكن نسبة علوم محتواه إلى البشر، إن قائله عليم بكل شيء، عليُّ حكيم. وتولد عندي عقيدة مفادها إن هذا الكتاب كتاب علوم، ليست هي ما يسمونه علوم الدين؛ بل إنها علوم الحياة الدنيا. كل العلوم التي يحتاجها بنو آدم ليحيوا حياة طيبة في الحياة الدنيا، وتكون حياتهم الآخرة، بعد الموت ثم البعث؛ حياة أبدية خالدة هنيئة. وصدق العزيز الحكيم عندما عَلّم محمد صلى الله عليه وسلم ألا يعجل بقراءة القرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه فقال عز من قائل ” ۗ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ ۖ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا”.
رحلة عسيرة
نظرا لخلفيتي في العلوم التي يسمونها العلوم الطبيعية، ويفرقون بينها وبين ما أسموه العلوم الإنسانية أو الأدبية؛ لمست الحاجة الملحة لمعرفة معاني ودلالات ألفاظ هذا الكتاب المجيد؛ وكان عليّ أن أبدأ رحلة عسيرة في البحث عن الأفضل والأعمق من كتب التفسير. نعم؛ ساعدتني هذه الكتب – من الطبري وما بعده؛ في فهم الكثير. ولكن بقي الكثير من الدلالات التي كنت أحس بها ولا أدركها من أقوالهم، وخاصة تعبيرات القرآن العلمية. عند ذلك بدأت في البحث عن كتب في مفردات لسان القرآن حتى أستطيع بلورة الدلالة العلمية بنفسي. وانتهت الرحلة الطويلة الشاقة بكثير من الكتب الورقية منها على سبيل المثال: القاموس المحيط للفيروز أبادي، أساس البلاغة للزمخشري، مختار الصحاح للرازي، المعجم الوجيز لمجمع اللغة العربية في القاهرة، مفردات ألفاظ القرآن الكريم للراغب الأصفهاني، عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ للسمين الحلبي، وغيرهم كثير. انتهيت من رحلتي المضنية هذه بنتيجة مفادها إن أفضل ما كتب في هذا المجال هو مفردات القرآن الكريم للعلامة الراغب الأصفهاني، وبدأت في الاعتماد عليه كأفضل المتاح، وباقي الكتب كعامل مساعد يعينني على بلورة المعنى الذي أريده. وتعلمت من هذا الكتاب، وغيره من التفاسير؛ إن أفضل وسيلة لفهم ألفاظ القرآن الكريم هو فهم دلالة أصل اللفظة الكريمة. ويقصدون بالأصل أصل استعمال العرب للفظ الذي يمكن معرفته من المعاجم اللغوية، ولاحظت أيضا إن الأفضل من ذلك التعرف على أصل الاستعمال من القرآن نفسه، فالقرآن يدلك على ما يريد لك أن تفهم من دلالات معانيه. ويتم هذا الفهم بأن تجمع جميع الآيات المحتوية على الجذر اللغوي للكلمة، ثم تتأمل في كيفية استعمالها في الكتاب الحكيم، بعدها ستجد آية واحدة متفردة تحتوي على أصل الاستعمال. وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ الجذر قَلَمَ: فعل القْلَمُ الذي هو قطع بعضا من الشيء هو الأصل المراد، والقلم الذي نكتب به كاستخدام شائع لأداة الكتابة أصله أنهم كانوا يقطعون من فروع الأشجار ليكتبوا به. تفهم ذلك من الآية الكريمة: “وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّـهِ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿لقمان: ٢٧﴾، ثم تفهم الاشتقاق الأهم من الآية الكريمة: ” ذَٰلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴿آل عمران: ٤٤﴾. إذا فأصل القلم هو قطع طرف الشيء.
الانترنت والانفجار المعلوماتي
على التوازي مع الكتب الورقية؛ تطور استعمالي للشبكة الالكترونية المسماة بالانترنت، وبذلك زاد عدد المتاح من كتب التفسير، ومعاجم اللغة، وصنوف لا حصر لها من كتب اللغة العربية والتراث الإسلامي. ورغما عن هذه المكتبة التي كان عدد الكتب فيها يزداد يوما بعد يوم، حتى وصلت إلى عدد صعب إحصائه؛ لم تفي بحاجتي إلى المزيد. وظل في نفسي نفس الإحساس السابق: هناك دلالة علمية للفظة القرآنية لا أستطيع بلورتها. وتولدت عندي حاجة لم أستطع التعبير عنها لأهل اللغة والتفسير حتى يساعدونني في إيجاد المطلوب. كنت دائم المقارنة بين البعد العلمي للفظة القرآنية الكريمة، ونتائج البحوث العلمية التي تصدر في المجالات المختلفة، وازداد يقيني بأننا مازلنا نقف على عتبات معاني القرآن الكريم، وأننا لم نسبر أغواره بعد.
الوصول إلى ضالتي
ظللت ابحث في الانترنت لعل وعسى أن أجد ضالتي. وذات يوم في عام 2011 من الميلاد، وبينما كنت أبحث في الإنترنت عن كتاب – لا أذكر اسمه الآن – استوقفني عنوان كتاب:” الدلالة المحورية في معجم مقاييس اللغة” – دراسة تحليلية نقدية، والكتاب صادر عن دار الفكر بدمشق، والمؤلف د. عبد الكريم محمد حسن حسن جبل. وجدت نبذة عن الكتاب تشرح محتواة بلغة لم أفهم مصطلحاتها بشكل واضح (دلالة محورية، مقاييس اللغة)، وكان أهم ما فيها وصف الدراسة بأنها: “دراسة لفكرة ( مهمة) في ( أهم) مراجعها. فأما الفكرة فهي ( الدلالة المحورية للجذر اللغوي)، أي الدلالة التي تدور حولها كل استعمالاته. وأما أهم مراجعها، فهو ( معجم مقاييس اللغة) لابن فارس”. سارعت في التقاط اسم الكاتب الكريم، وبحثت عنه عن طريق الباحث جوجول فإذا بي أجد “سيرة ذاتية” له، بها كل ما أريده من معلومات للاتصال به. وفي أول رحلة لمصر تم التواصل، وجاءت المفاجئة الكبرى. لقد أخبرني الدكتور الكريم عبد الكريم أن والدة وأستاذه الكريم قد ألف معجما جمع فيه أصول (أو جذور) الألفاظ الكريمة للقرآن الكريم، وأنه اتبع أسلوبا جديدا في تفسير الألفاظ الكريمة، وما هي إلا أيام معدودة فصلتني عن الكتاب. تصفحت الكتاب، ومرة أخرى استعصى عليّ فهم الكثير. ترتيب الجذور مختلف عما تعودت عليه، مصطلحات جديدة لم أفهمها جيدا: “معنى محوري”، “فصل معجمي”، حروف (أو أصوات ) لها دلالة، دلالة صوتية للفصل المعجمي، والتكييف والاشتقاق وغيرها.
رحلة تثبُت لم تنتهي
وكباحث كيميائي وجدت إن أفضل طرق التأكد فحص نتائج التجارب المعملية مع الواقع، ولكن كيف يطبق هذا الكلام على شرح المفردات؟ بالطبع كانت خير وسيلة للتأكد هي مراجعة معاني الألفاظ القرآنية التي شرحها الكاتب الكريم على ما عندي من كتب سابقة ومعاجم مشهود لها كلسان العرب والقاموس المحيط والمفردات وغيرهم، فوجدت إن أسلوبه في التفسير يوصل إلى دلالات صحيحة ودقيقة للألفاظ القرآنية. هذه الدلالات تتفق – في كثير منها – مع من سبقه من المفسرين، وتتفق تماما مع أصل الاستعمال العربي للجذر ومشتقاته. وكان ميزاني لتقييم دقتها عرضها على السياق القرآني.
مفاجئة سعيدة
ووقعت مفاجئة أخرى، لقد وجدت إن ما كتبه مؤلف المعجم في كلا من المعنى المحوري للجذر الثنائي – الذي أسماه الفصل المعجمي، والمعنى المحوري للجذر الثلاثي يتفقا تمام الاتفاق مع الدلالة العلمية التي كنت قد فهمتها من دراسة النظرية العلمية في ذلك المجال. وحتى أطمئن إلى صحة ما توصلت إليه؛ انتقلت سريعا إلى كلمات معضلة أجهدت المفسرين، ولكن كانت لها نظريات علمية وصلت إلى درجة الحقيقة العلمية. على سبيل المثال: ما هو دحو الأرض وما هو طحوها؟ ما هو طمس النجوم وما الفرق بينه وبين انكدارها؟ ماذا يراد بالعلق الذي خلق منه الإنسان، ما هو؟ الضحي ما المقصود بالضحى الذي يقسم به العزيز الحكيم؟ الخ..؛ فإذا بي أجد شرح المعجم لها في استعمالاتها العربية شرحا يكاد يطابق ما يقوله العلم الحديث. وكأن العالم الجليل، واضع المعجم محمد حسن حسن جبل؛ ليس عالما في اللغة أو في التفسير فحسب، بل عالم في الفلك والفيزياء وعلوم الحياة وعلم النفس والاجتماع والفلسفة والتاريخ، إلى آخره. و انتهيت إلى قناعة مفادها إن هذا الكتاب يفوق بكثير كل ما سبقه من كتب في تفسير القرآن.
هل اللغة العربية متفردة الخصائص؟
المشكلة بالنسبة لي كباحث علمي مدقق هي: إن الكتاب وأسلوبه في التفسير ذو منهج جديد في التفسير، وبالتالي يكون لزاما عليّ أن أتعرف على ملامحه، وأحاول توثيق المنهج الجديد. لقد كان المنهج جديدا في استنباط الدلالة اللغوية للألفاظ القرآنية، لم يُتوافق عليه بعد. صحيح إن بعض أئمة اللغة من قبله قد اتبع هذا النظام لتفسير الألفاظ العربية، وأعني بالمقام الأول ابن فارس (توفي 395 هـ)، إلا إن كثيرا من اللغويين لم يلق بالا لهذا الأسلوب. إن القاعدة التي اعتمد عليها الشيخ في التفسير كانت خصيصة للغة العربية أهملها الكثيرون، وكما قال الشيخ الكريم رحمه الله تعالى “ما كان يسوغ لي ولا لغيري أن يغفل هذه الخصيصة للعربية – (التي تتميز بها عن اللغات الأخرى)- فتدفن وتغيب عن أهلها، في حين أنها حق العربية، وحق لأهلها، وهي من ذِكِرهم الذي امتن الله به إذ أنزل القرآن الكريم بالعربية ” وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ” ﴿الزخرف: ٤٤﴾. وسوف أترك الحديث لتفصيل ذلك إلى المعجم نفسه لمن أراد أن يستزيد، حيث يمكن قراءة ذلك بتفصيل أكبر في كلا من المعجم الاشتقاقي المؤصل” (بين يدي المعجم)، وكتاب في الاشتقاق اللغوي والمعجم الاشتقاقي” للكاتب نفسه.
معنى الدلالة المحورية
في كتاب الدكتور عبد الكريم “الدلالة المحورية في معجم مقاييس اللغة يشرح فكرة الدلالة المحورية بتفصيل نسبي فيقول: “المقصود بالدلالة المحورية لجذر ما، هو المعنى الذي يتحقق تحققاً علمياً في كل الاستعمالات (= التراكيب) المصوغة من هذا الجذر”. ثم يشرح الدكتور فوائد انتهاج هذا النهج في شرح وتفسير الجذور العربية فيقول: “ومن الواضح، بعد، أن هذا المعنى المحوري، يتميز بما يلي: 1 – أنه تجريديّ، بمعنى أنه يُسْتخلَص مِنْ كل استعمالات الجذر- أو من أكثرها – استخلاصاً ينهض على لَمْح صور هذا المعنى في تلك الاستعمالات. 2 – أنه من صُنع اللغويّ، أو الباحث، بمعنى أنه بصورته المحورية قد لا يكون مصرّحاً به في المعاجم اللغوية التي تُفسر المفردات. 3 – أن هذا المعنى قد يتحقَّق في بعض الاستعمالات بصورة صريحة مباشرة، وقد يتحقق في بعضها الآخر بصورة تحتاج إلى تأويل بدرجات مختلفة”(أهـ).
الدلالة العلمية
بدأت منذ اقتناء الكتاب إلى ضمه إلى مجموعة الكتب المذكورة آنفا لتفسير آيات الكتاب الحكيم، ولأني معنى بالألفاظ التي لها دلالة علمية، ساعدني هذا المعجم في تحرير اللفظة مما يسمح بالتعرف على الدلالة المطلقة، التي وجدتها في كثير من الحالات تتطابق مع ما يقول به أصحاب التخصص العلمي، والتي غالبا ما عجز عن تفسيرها السابقون كما ذكرت آنفا.
الفصل المعجمي
اكتشفت سريعا إن فكرة المعنى المحوري هي التي كنت أبحث عنها، ولا أجد نفسي قادرا على التعبير لطلبها طوال هذه السنوات التي امتدت إلى عقود. وعندما اطلعت على المعجم وجدت إن فكرة المعنى المحوري لم تكن هي الفكرة الجديدة الوحيدة التي جاء بها المعجم، فقد جاء بفكرة أخرى، تبين لي لاحقا، أنها ذات أهمية قصوى؛ لو كانت معرفة الدلالة العلمية لألفاظ القرآن الكريم هي المرجوة. إنها فكرة – أو ظاهرة – ما أسماه العالم الجليل بــ”الفصل المعجمي”، وخلاصتها، كما يقول الشيخ؛ ” أن كل التراكيب المُبتدأه بحرفين بعينيهما وترتيبهما يكون في معنى كل منها قدر مشترك مع معاني سائرها. مثلا تراكيب ( بتت، بتر، بتع، بتك، بتل) فيها كلها معنى القطع، وقد ثبتت هذه الخصيصة بنحو 350 فصلا معجميا، فهي خصيصة مطردة في اللغة العربية لا تجحد” أهـ.
المفاجئة الكبرى
تأملت في المعاني المحورية للفصول المعجمية لألفاظ تحتوي على دلالات علمية، فإذا بي أجدها تتحدث عن أسلوب إيجاد (= خلق وابداع) ذلك الشيء، أو تصف الخصائص العلمية المكتشفة حديثا جدا لذلك الشيء. لقد كنت دائما أحس بأني في حاجة ملحة لتجريد دلالة المفردة القرآنية الكريمة وذلك لإيماني المطلق في إن القرآن الكريم قد تجاوز معرفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومعرفة كل ذلك الجيل المبارك الذي صاحب الرسول الكريم، بل تجاوز معارف البشرية قديمها وحديثها؛ فعندما تتحرر دلالات ألفاظ القرآن الكريم ستظل متجددة، تعطي كل جيل المزيد والمزيد من دلالات علمية إضافية؛ فالقرآن يتكلم عن الماضي والحاضر والمستقبل. وذلك طبيعي جدا لأن القرآن هو الرسالة النهائية الخاتمة من رب العالمين لبشر خلقهم بيده. ولكونه الرسالة الخاتمة كان لزاما أن يحتوي على آيات كريمة كثيرة تصف الكون، ويكون معناها يسير على الفهم ويقبله كل جيل بما توفرت لهم من معارف، بما فيها جيلنا والأجيال القادمة، من أجيال ما بعد الثورة العلمية والتقنية الحديثة.
الواجب تعلمه لتفسير الدلالة العلمية القرآنية
بعد تجربة وتفكير عميقين في سؤال واجهني به المنكرون للقول إن القرآن كتاب علوم. كان السؤال يقول، إن كان القرآن الكريم يحتوي على نظريات علمية كما يدعي من أصطلح على تسميتهم بالمفسرين العلميين للقرآن الكريم، فلماذا لا تصرحون بها؟ وبذلك نتقدم الأمم قاطبة، ونوفر على الإنسانية طائل الأموال التي ننفقها على البحوث العلمية. كانت محاولة الإجابة عن هذا السؤال تشغلني كثيرا منذ أن كتبت كتابا في التفسير العلمي للقرآن ونشرته عام 2009 م تحت اسم ” والذاريات ذروا”، وخصصت الجزء الأول منه للرد على من ينكرون مقولة إن القرآن كتاب علوم. صحيح إن القرآن يصف نفسه في أوائل سورة البقرة بأنه كتاب هداية، ولكن المنطق والواقع يقول أنه لا هداية دون تعليم، فالتعليم هو الوسيلة الوحيدة لهداية الإنسان. ولكن يبقى السؤال دون إجابة، لماذا لا نفهم النظريات العلمية الواردة في القرآن إلا بعد شرح العلماء لها؟ الإجابة في الحقيقة في غاية البساطة ولكنها صعبة الفهم على من لم يخض تجربة الموائمة بين أسلوب القرآن في تقديم الحقائق العلمية وأسلوب الباحثين في كل فروع العلم. القرآن يقدم لنا المعلومة العلمية في أسلوب مبسط يلبس ثيابا غير شفافة، ويحتاج إلى تدبر وفكر وعلم مسبق، من يستطيع أن يفهم – مثلا – حقيقة أن قطع السحاب في السماء تسيرها الرياح فتلقح بعضها بعضا؟ والتلقيح هنا يعني اتحاد الشحنة السالبة المتولدة في بعض قطع السحاب مع الشحنة الموجبة في بعضها الآخر، فهل ما اكتشفناه بعد نزول القرآن يشابه قوله عز وجل “وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ” ﴿الحجر: ٢٢﴾. إن الموائمة بين ما يقوله العلماء وما يقوله القرآن تحتاج إلى عنصرين مهمين: الأول المعرفة الدقيقة للنظرية العلمية، و الثاني تحرير دلالة اللفظة القرآنية من تفسير من سبقونا، حتى لا يسيطر ويوجه طريقة تفكيرنا في التعرف على الدلالة القرآنية المحكمة. إذن؛ فإن ما فعله عالِمُنا الجليل الدكتور محمد حسن حسن جبل رحمه الله تعالى (توفي في مارس 2015 م) يعتبر من الأعمال العظيمة التي تساعد على كشف أسرار القرآن الكريم العلمية.
خصائص متفردة للغة العربية
لم يقم هذا المعجم بشرح القرآن فحسب، بل كشف وأثبت بالدليل العملي بعض خواص لغتنا العربية المتفردة. المعجم يثبت بأسلوب علمي مقبول وجود علاقة بين (الصوت والدلالة). هذا يعني إن أصوات الحروف العربية ليست عشوائية، أو أنها مجرد أصوات توافق عليها أصحاب اللسان العربي في بدايات نشأة اللغة. وكذلك فإن التعرف على أساليب الاشتقاق الدلالي للمفردات القرآنية التي لها دلالة علمية سوف يساعدنا على تحسين فهمنا لكل من النظرية العلمية واللفظة القرآنية، فكثيرا ما يحمل اللفظ القرآني دلالة جديدة تتجاوز معارف الأجيال السابقة، وهذا الكلام موجه بالدرجة الأولى للباحثين في مختلف العلوم الطبيعية. ولذا فإني أدعو المتخصصين في اللغة أن ينكبوا على دراسة هذا المنهج وتوثيقه بأسلوب لا يدع مجالا لشك؛ حتى يصبح منهجا راسخا نعلمه لطلبة تفسير القرآن في المعاهد الجامعية المختلفة. وعندي فإن الدكتور جبل قد قدم من الأدلة العلمية العملية الكافية وبرهن على صحة هذا الأسلوب، فقد قدم عمليا تحليلا دلاليا للجذور العربية التي استخدمها القرآن الكريم. ولذا نستطيع القول إن هذا المنهج الذي اعتمده ابن فارس ومن بعده الدكتور جبل أفضل منهاج لمعرفة الدلالة العلمية واللغوية. ونكرر لقد استطاع الدكتور جبل أن يستخرج ، بأسلوب مقبول علميا؛ دلالات الحروف من الاستعمالات العربية، وبين وجود الارتباط الاشتقاقي والبنائي بين مختلف أعضاء أسرة الفصل المعجمي، في لسان القرآن الكريم. ونقتبس من المعجم قول الشيخ الكريم: ” إن تبين صحة فكرتي: المعنى المحوري، و الفصل المعجمي، وتحققهما باطِّراد في آلاف التراكيب ومئات الفصول المعجمية؛ لا يفسر إلا بوجود ارتباط علمي يقيني بين الألفاظ ومعانيها بصورة مجملة، ثم بين مكونات الألفاظ ومعانيها بصورة مفصَّلة. ومكونات الألفاظ هي الحروف الألف بائية” اهـ. مزيد من خصائص العربية وفي كتاب آخر للكاتب الكريم عنوانه “في الاشتقاق اللغوي والمعجم الاشتقاقي”، يشرح بعضا من خصائص العربية، وفيه يعرض لخمس خصائص للغة العربية منها المعنى المحوري والفصل المعجمي وتصاقب (= تقارب) الألفاظ لتصاقب المعاني ثم قال: “إن ذلك دال على إحكام العربية، وأن ألفاظها ليست عشوائية، وإنما لكل منها أصله الذي أُسْس عليه معناه المتعامَلُ به. وأردف: إن اللغة العربية لها أسرار، وليست كاللغات الأخرى تؤدي وظيفتها فحسب، وأنا قلت كل ما قلته – عن مميزات اللغة العربية- بناء على دراسة علمية بحته. وكل الخصائص الخمس المذكورة هي كَشْفُ لا اختراع، أي أنها متحققة في اللغة من أول الشعر الجاهلي إلى الآن، ونحن كشفناها ولم نخترعها وشأن هذه الخصائص كشأن قواعد النحو والصرف كُشفت ولم تخترع. فإذا سألتني عن سر هذا قلت لك ليس عندي جواب. وإنما هذه خصائص متحققة في اللغة أسهمت مع الأئمة في كشفها وتوضيحها، وليس لي علم بسر وجودها في العربية. وإنما أقول إن هذه اللغة العربية أَنفَسُ اللغات البشرية وتستحق أن نهتم بها بأقصى إمكاناتنا. ودعك من قول الأوربيين وتلاميذهم ليس هناك لغة أفضل من لغة. فإن اللغات تتفاضل في وظيفة اللغة وهي القدرة على التعبير. وما نراه من تقدم الإنجليزية والفرنسية والألمانية في انتشارهن واستعمال العالم لهن أكثر من العربية؛ فذلك من تقصيرنا تقصيرا فاحشا في حق لغتنا في تعليمها وفي الالتزام بها، مقابل دأبهم في الكد لخدمة لغتهم. ولله الأمر من قبل ومن بعد (أهـ، ص 74).
مزيد من خواص الفصل المعجمي
سبق أن ألمحت أنه أثناء دراستي لبعض المفردات القرآنية التي لها دلالة علمية؛ لاحظت إن الدلالة العلمية للفظة القرآنية يمكن استنباطها من كلا من المعنى المحوري للفصل المعجمي (= الأصل الثنائي للفظة)، والمعنى المحوري للتركيب الثلاثي (= الجذر الثلاثي)، وبذلك يمكننا تأصيل المصطلحات العلمية وترجمتها من الإنجليزية إلى العربية، بل وتصحيح وتعديل بعض الدلالات، أو شرحا لبعض النظريات العلمية، وربما توضيح نظريات ما زالت لم يحسمها العلم بعد، وبذلك نقف على أرض صلبة عند ترجمة الكتب العلمية وأوراق البحوث العلمية، ولكن كل ذلك يحتاج إلى سرعة وحشد للهمم. لا يجب أن يأخذ كلامي هذا على محمل رفض البحوث العلمية والاعتماد على التحليلات اللغوية فحسب، ولكني أقول بمزاوجة البحث العلمي مع التقصي عن الدلالة العلمية في اللفظة القرآنية. كل ما نحتاجه هو إعداد المفسر المدقق الذي يملك زمام لغة القرآن مع معرفة صحيحة للنظريات والمكتشفات العلمية الحديثة. ولاحقا سوف أعطي بعض الأمثلة التي تبين كيفية استنباط الدلالة العلمية من كلا من المعنى المحوري للفصل المعجمي والمعنى المحوري للجذر الثلاثي المشتق منه. قد يبدو هذا الكلام وكأنه “خيال علمي” يتأتى من الشوق الشديد إلى اللحاق بركب العلم والعلماء بعدما مرت علينا – نحن العرب – قرونا من التخلف، ولكن على كل مؤمن ألا يتعجب من كتاب كان الله سبحانه وتعالى هو المخرج، فها هو يقول، عز من قائل: ” كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ” ﴿١١٠ آل عمران﴾، فإلى جانب كمال وجمال مضمون الرسالة، دقة وإبداع في الإخراج. ولكن كيف كان هذا؟
وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي
في بحثي عن طبيعة اللغة العربية وجدت شبه إجماع بين كثير من المتخصصين الغربيين والعرب بأن اللغة العربية التي نطقت بها قريش هي أقرب اللهجات السامية إلى ما يطلق عليه اللغويون مصطلح “اللغة الأصل” ( Pro – Language) وهم يعنون بذلك أن لكل أسره من أسر اللغات توجد لغة ابتدائية تطورت منها اللغات اللاحقة. وبالنسبة لأسرة اللغات السامية يقولون بأن اللغة العربية هي أقرب اللغات السامية إلى هذه اللغة الأم ( Proto – semitic). ويعزون ذلك إلى عزلة الجزيرة العربية عن باقي المحيط المليء باللهجات واللغات الأخرى، مما يفسر نقاء اللغة العربية ” ومن ثم احتفاظها بأكبر قدر من مقومات اللسان السامي الأول، وبقي من تراث هذا اللسان ما تجردت منه أخواتها، فتميزت عنها بفضل ذلك بخواص كثيرة يرجع أهمها إلى أمور ثلاثة هي:
1. إنها أكثر أخواتها احتفاظا بالأصوات السامية، وزادت عليها بأصوات كثيرة.
2. أنها – أي العربية – أوسع أخواتها جميعا وأدقها في قواعد النحو والصرف.
3. أنها أوسع أخواتها ثروة في أصول الكلمات والمفردات.” (منقول بتصرف يسير من كتاب فقه اللغة، د. علي عبد الواحد وافي، النسخة الالكترونية ص 129). وفيما يلي رسمان توضيحيان، أولهما يبين العلاقة بين “اللغة الأصل” (proto- afro-asiatic) لكل اللغات السامية واللغة التي بدأت بها اللغات السامية. أما الشكل التالي فيبين العلاقة بين “اللغة الأصل، أو اللغة الأم” للغات السامية (Proto-semitic) واللغة العربية. والرسمان يوضحان إن اللغة العربية لم يدخلها الكثير من التغيير والتطورات التي تحدث تقريبا لكل اللغات نتيجة لاختلاط البشر، وتطورت وزادات مفرداتها بمعزل (نسبي) عن اللغات الأخرى.
 
  • يسار
  • المركز
  • يمين
إزالة

علاقة اللغات السامية

الرسم التوضيحي أعلاه يبين علاقة اللغة السامية الأصلية (600 – 5000 سنة ق.م) بالنسبة لأسرة لغات المنشأ، وهي ما تسمي باللغات الأفرو- آسيوية (15000 – 9000 سنة ق.م) ويبدو بوضوح نقاء اللغة السامية الأولى مما أدى فيما بعد إلى نقاء العربية وثبات دلالاتها نسبيا.
 
  • يسار
  • المركز
  • يمين
إزالة

تطور اللغة العربية

الشكل يبين تطور اللغة العربية بصورة منعزلة تقريبا عن اللغات السامية الأخرى فكانت أقربها إلى اللغة السامية الأولى . والمعروف إن لغة قريش قد جمعت اللهجات الأخرى. وطبعا لا ننسى رقي هذه اللغة المتمثل في الشعر العربي في القرون التي سبقت نزول القرآن الكريم، والذي أعطى اللسان العربي مزيدا من المفردات ومزيدا من أساليب التعبير. و بذلك تمت صناعة اللسان العربي القديم منذ آلاف السنين لنطق معبر عن الواقع العملي. وهكذا نستطيع القول بالمنطق العلمي إن تطور اللسان العربي كان بعناية من الله تعالى، أراده الله كذلك حتى يخرج لنا كتابه الخاتم، وفيه يضع أساسيات لوضع لغة علمية، يتمثل معانيها في المرحلة الثنائية للغة، والتي اشتقت منها الجذور الثلاثية التي تمثل أكثر من 80% من جذور المعجم العربي. وننقل قول عالم لغوي مشهود له بالدقة العلمية: ” الجذر في اللغة السامية الأم ( The Proto – Semitic Root) في اللغات السامية الموثقة تاريخيا تؤلف الجذور السواكن الثلاثية الجمهرة العظيمة…. ونظرة فاحصة في المعجم تكشف الظاهرة الآتية: ثمة مجموعات كثيرة لجذور لها صوتان أصليان (= الفصل المعجمي) مشتركان يعبران عن معان متماثلة أو متشابهة… ثم يتابع ويضرب بعض الأمثلة ويصل إلى نتيجة: ” هذه الظاهرة واسعة الانتشار في المعجم السامي وتثير التساؤل الآتي: أليس كثير من الجذور الثلاثية السواكن في حقيقة أمرها مشتقة من الجذور الثنائية السواكن؟ ثم ألم يكن نظام الجذور الثنائية السواكن، فيما يمكن، سابقا للصيغة الثلاثية السواكن في السامية؟ … ثم يصل العالم اللغوي إلى نتيجة في غاية الأهمية يقول: ” إن هيكل الجذر السامي كله كان في الأصل ثنائيا. وأكثر المزاعم احتمالا أن جذورا موجودة في الأصل مع ساكنين أو ثلاثة (وكذلك عدد أصغر مع ساكن واحد فقط أو مع أكثر من ثلاثة) وأن في مرحلة ما من تطور اللغات السامية ساد النظام الثلاثي – متوسعا بالقياس، جاعلا بذلك الجذور الثنائية متعاونة من خلال استعمال صوت أصلي ثالث”. (ص 125- 127 في كتاب “مدخل إلى نحو اللغات السامية المقارن” تاليف سباتينو موسكاتي، ترجمة د. مهدي المخزومي ، ود. عبد الجبار المطبليي، 1993 م
عالم الكتب: www.alkottob.com-Introduction_to_Comparative_Nhallgat_High.pdf)
ويذكر المستشرق الألماني كارل بروكلمان عن ظاهرة أخرى للعربية كاحدى اللغات السامية في كتابه فقه اللغات السامية، ترجمة د. رمضان عبد التواب، صادر عن جامعة الرياض 1977 : “وما يميز اللغات السامية عن غيرها من الفصائل الأخرى، يتمثل قبل كل شيء في الأصوات، وهو رجحان الأصوات الصامتة على الأصوات المتحركة، ويرتبط المعنى الرئيسي في الكلمة، في ذهن الساميين، بالأصوات الصامتة فيها، أما الأصوات المتحركة فهي لا تعبر في الكلمة، إلا عن تحوير هذا المعنى وتعديله، ولهذا السبب نفسه يقع الثقل الرئيسي في النطق، على الأصوات الصامتة مطلقا، أما الأصوات المتحركة فإنها تتأثر في صفاتها بتلك الأصوات الصامتة” (ص 12). ويتحدث عن اللغة العربية فيما قبل الإسلام فيكتب: ” وتمتاز هذه اللغة الشعرية بالوفرة الهائلة في الصيغ كما تدل طريقتها في تكوين الجملة، على درجة من التطور أعلى منها في اللغات السامية الأخرى. هذا إلى أن مفرداتها تفوق الحصر، لأنها التهمت كل اللهجات المحيطة بها”.(أهـ، ص 27) . وإن كان لنا من إضافة فإننا نقول: كل دارسي العلوم الطبيعية والطب وكثير من العلوم التي نسميها إنسانية؛ يعلمون إن المصطلحات التي نتعلمها في تلك العلوم مأخوذة من أصول يونانية أو لاتينية. والسؤال لماذا اختار العلماء التعبير عن أنفسهم بمصطلحات وأسماء من لغات ميتة؟ والإجابة هي: إن اللغة كائن حي يتغير ويتطور بمرور الزمن، ولكي نُثَبِتْ دلالة المصطلحات يجب على العلماء استخدام مصطلحات لغوية لن تتغير بتغير الزمان والمكان، وكان الاختيار ألفاظ لاتينية ويونانية قديمة لن تتغير على مر الزمان، وعلى كل من يريد أن يتعلم العلوم الحديثة فعليه أن يتعلم هذه المصطلحات ودلالتها. ويبقى السؤال هل هكذا أراد الله تعالى إخراج كتابة التعليمي بهذا الأسلوب؟ والجواب عندي هو إن هذا الكلام منطقي جدا وبين أيدينا من قرآن ومعاجم لغوية ونتائج علوم تصدقه.
شرح وتحليل وأمثلة
نأتي مرة أخرى للحديث عن المعجم المؤصل وعلاقته باللغة العلمية الحديثة. المعروف في البحوث العلمية أنه عندما يلحظ الباحث ظاهرة طبيعية فعليه أولا أن يتأكد من تكرارها وثباتها على مر الزمن، ثم يبلور في وصف دقيق ما يعبر عنها، ثم يجري تجارب ليثبت رتابتها، ثم يبلور النتائج ويعرضها على المهتمين لمن شاء منهم أن يتثبت. ولذا فلم يبق علينا الآن إلا أعطاء أمثلة تثبت إن ألفاظ القرآن، سواء الفعل الثلاثي أو الأصل الثنائي، يراد منها التعبير عن الدلالة العلمية لكثير من الظواهر الطبيعية، التي لم نكتشفها إلا في القرن الماضي، القرن التاسع عشر الميلادي، أي بعد نزول القرآن الكريم بقرون عديدة. لقد وجدت إن المعنى المحوري للفصل المعجمي يعبر عن الدلالة العلمية للفعل الثلاثي منه ولكنه يصف الأصل التكويني للشيء. ذلك بمعني: عندما نجد لفظة الشمس في القرآن الكريم فإن هذه اللفظة الكريمة تتكون من ثلاثة حروف هي (ش م س)، الحرفان الأولان (ش م) يمثلان الفصل المعجمي، ولو نظرنا في معناه المحوري الذي وضعه المعجم؛ فسنجد إن المعنى هذا يعبر عن كيفية تكون (خلق) الشمس. أما المعني المحوري للفعل الثلاثي (شَ مَ سَ) فهو يعطي الدلالة العلمية للفعل. ومن هنا نستطيع أن نستنبط باطمئنان أن الفعل الثنائي كان أصلا للفعل الثلاثي. وان الحديث عن تطور اللغة العربية الذي يقول بثنائية الفعل مرجح، هذا إن أثبتنا اطراد هذه الظاهرة. هذا الكلام لن يكون مفهوما بدون ضرب أمثلة، ولذا فسوف أحاول في الفقرة القادمة ذكر بعض قليل من الأمثلة.
أمثلة تبين الدلالة العلمية لكل من الفصل المعجمي والفعل الثلاثي
في هذه الأمثلة سوف أختار ألفاظ قرآنية بعينها، مما أعلم أن لها دلالة علمية، ثم استعين بالمعجم في إيجاد جذورها، ثم أنقل ما يذكره المعجم الاشتقاقي المؤصل بدون أي تصرف أو تغيير، ثم أنقل كلا من: 1. المعنى المحوري للجذر الثنائي، 2. المعنى المحوري مستنبطا من دلالة كل صوت على حدة (وهو منفصل عن المتن ومكتوب في الهامش المصاحب لكل أسرة)، 3. المعني المحوري للجذر الثلاثي المكون للكلمة القرآنية. وأنبه القارئ الكريم أنه سوف يجد تطابقا بين المعني المحوري للجذر الثنائي المستنبط من الاستعمالات العربية، والمعنى المحوري المستنبط من دلالات الحروف التي استنبطها صاحب المعجم، وشرحها بتفصيل نسبي في بداية المعجم. وعليه فلا يجب أن يمل القارئ من هذا التكرار. إننا بصدد استكشاف صحة أسلوب جديد في تفسير المفردات. وأنبه أيضا إلى إن كثير من الألفاظ يتشابه المعنى المحوري للفصل المعجمي والمعنى المحوري للجذر الثلاثي، أو توجد إضافة قليلة لا تغير المعنى العام للفصل المعجمي. و أثناء الكتابة والنقل من المعجم وبغرض التسهيل للقارئ غير المتخصص في العلوم الكونية؛ فسوف أحيط بعض كلام المعجم بأقواس هكذا {…} حتى يتذكرها القارئ الكريم، ثم أترك له مقارنة الكلام المحصور بالقوسين والوصف العلمي كما يقوله المتخصصون في النظريات والحقائق العلمية التي تم اكتشافها في شتى العلوم. وسوف يتبين للقارئ – إن شاء الله – مدى التوافق بين الاثنين. و بالطبع سوف اتبع نفس منهج المعجم في عرض الكلمات، فهو يصنف جذور الكلمات العربية إلى أسر كل فرد في الأسرة يبدأ بنفس الحرفين اللذان يبدأ بهما العضو الآخر ( وهذا هو الفصل المعجمي). وعلى سبيل المثال؛ فإن فصل الباء والتاء (بت) هو فصل معجمي يحمل دلالة القطع، ويكون الحرف الثالث (ما يُثلِثهٌما) هو الذي يزيد دلالة ما على دلالة القطع، التي حملها الفصل المعجمي. و يكون المعنى المحوري للـ(بت) هو ضغط يتولد منه القطع ، كما في بتَّ الحبل أي قطعه، والبتر قطع خاص بالذنب كما في الأ(بت) + ر) أي الأبتر، وهو مقطوع الذيل ( قطع الذيل في الحيوان، وفي الإنسان مجاز يدل على انقطاع خلف الذكور، وكان العرب يعتبرون أن الرجل الذي لا تولد له ذكور ينقطع نسبه وذكره، أي أبتر). أما في الـ (بت ك) فهو قطع بدقة وحدة، كما في بتك آذان الأنعام، وكان العرب يشقون أذن النعم لوسمها ووضع علامة لها لتميزها عن القطيع. وهو ما نقرأه في الآية الكريمة ” وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّـهِ” ﴿النساء: ١١٩﴾. (ونظن إن هذا الفعل يحمل دلالة علمية يريد الله بها أن ينبهنا لخطر التلاعب (بالبتك) في الحامض النووي (الدقيق) الذي يغير من صفات المخلوقات، وهو ما نسميه اليوم بتقنية الجينات، أو الهندسة الوراثية). أمثلة ما المقصود بدحو الأرض؟ الدال والحاء ومايُثلِثهٌما (انظر المعجم المؤصل) (دحح – دحدح) (= الفعل الثنائي المشدد) رجل دَحْدَح : قصير غليظ البطن/ سمين/ {مستدير مٌلمْلَم} الدح: الضرب بالكف منشورة، والدحُّ: {الدفع وإلصاق الشيء بالأرض}. دَحَّهُ : وضعه على الأرض ثم { دَسَّه حتى لزق بها}. المعنى المحوري (للفعل الثنائي المشدد دَحّ): صدم أو {ضغط بعرض على جرم الشيء حتى يتداخل بعضه في بعض ململما } دون أن يرتفع كالدح بمعانيه المذكورة. وننقل من هامش المعجم: (صوتيا): الدال للضغط الممتد والحبس، والحاء تعبر عن احتكاك بعرض وجفاف. والفصل منهما يعبر عن {انضغاط الجرم}، كما في الدح، وهو {ضغط الشيء حتى يلصق بالأرض}. وفي ( دحو دحى) أضافت الواو معنى {الاشتمال} والياء معنى {الاتصال والتماسك}؛ فعبر التركيبان عن نوع من { كف الانبساط بجعل الشيء كالقرص}، وهذا كالجمع في الاشتمال وفيه معنى الاتصال بالاستدارة أي عدم الانقطاع مع البسط المحدود. ( دحو – دحي) (= الفعل الثلاثي): في القرآن الكريم: “وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا” ﴿٣٠ النازعات﴾ الأُدحُوة – بالضم: مبيض النعام في الرمل. ودحا الخباز الفَرَزْدَقة ( والفرزدقة هي القطعة من العجين): بسطها ومدها ووسعها [الاستعمال العربي مأخوذ من أساس البلاغة للزمخشري ]. والمداحي: حجارة أمثال القِرَصة كانوا يحفرون حفرة ويدحون فيها بتلك الأحجار، فإن وقع الحجر فيها غلب صاحبها وإلا قٌمِرَ[ وهذا الاستعمال مأخوذ من حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلعب في مكة وهو صبي صغير بالمساحي والمداحي]. والدحو: استرسال البطن إلى أسفل وعِظَمه. المعنى المحوري ( للفعل الثلاثي): { بسط الشيء بسطا جزئيا بنحو الضغط مع كف أطرافه (فتستدير ولا تنتشر متسيبة)}. كما يفعل الخباز بالفرزدقة، وكالأدحِيّ وهو فجوة في الرمل تحدثها النعامة بجثومها وإزاحتها ما تحتها من الرمل لتَحُوز البيض. ولعبة المداحي، سميت لوضع الحجارة المذكورة في الحفر الغائرة التي تشبه المداحي، أو لأن الحجارة كالقِرَصة المبسوطة المستديرة. وكالبطن المتدلية مع استدارة. ومنه: “تَدَحَّى: اضطجع في سعة من الأرض (انبسط)، “وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا” أي بسطها، وهي فعلا مبسوطة بالقدر الذي يتعايش فيه أهل كل قطر، وهذا لا يمنع أن تكون في مجملها كالكرة. وفعل (دحو) يعبر عن الأمرين. و الدَحْية – بالفتح: رئيس القوم” { يجمعهم ويمسكهم كتلة واحدة} (كالحاكم) فهو من {إمساك المنبسط}. أي { لّمه فلا يتسيب}. وباختصار نقول معنى دحاها أي بسطها، كما يبسط الخباز قطعة العجين فيجعلها مستديرة ولكن منبسطة. أين الحقيقة: هل الأرض منبسطة، أم كروية كما يؤكد العلم؟: يقول القرآن الكريم ” وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا” أي بسطها، ويقول العلم إن الأرض كروية الشكل فأيهما صحيح؟ من علماء التفسير واللغة من هو منفتح على العلم ويحترم العلماء لأنه واحد منهم، مثل شيخنا الكريم صاحب المعجم. يقول دفاعا عن العلم والقرآن في آن واحد في شرح الآية الكريمة: ” دَحَاهَا” أي بسطها، وهي فعلا مبسوطة بالقدر الذي يتعايش فيه أهل كل قطر، وهذا لا يمنع أن تكون في مجملها كالكرة “. وهذا في الحقيقة تفسير صحيح لأن الأرض فعلا تبدو مسطحة لمن يمشون عليها، والحقيقة فإن هذه الآية الكريمة لا تصف حالة الأرض الحالية، إنما تصف كيفية تكون الأرض. المتدبر في القرآن سوف يجد الكثير من الآيات التي تتحدث عن الأرض، ويمكن تصنيفها ثلاثة أقسام: القسم الأول خاص بخلق وتكوين الأرض، و القسم الثاني خاص بإعداد الأرض للإنسان والحياة. و القسم الثالث يتحدث عن نهاية الأرض استعدادا ليوم القيامة. والتفرقة بين هذه الأقسام تحتاج إلى الإطلاع على نتائج البحوث العلمية التي تعين الإنسان على معارف مراحل الخلق، وتحتاج بعض التأمل والتفكر. فالقسم الثاني نقرأ فيه أن الله تعالى أعد لنا الأرض للحياة، وهيأها لتكون مستقرا وقرارا لنا، وجعلها لنا مهدا، ووضعها للأنام، وجعلها لنا كفاتا( أي تضمنا وتجمعنا)، وبساطا، و ذلولا، وفراشا، وهو الذي مدها وسطحها لنا. وفى كل هذه الآيات تأتي الأفعال تتلوها كلمة لكم، أي بالنسبة لما يراه ويتصوره الإنسان. أما (ما دحاها)، و(ما طحاها)، فهي أفعال تدل على كيفية خلق الأرض. ولذا لا يجب أن نربط بين دحو الأرض وشكلها الحالي الذي يبدو لنا – نحن البشر. ولكي نفهم كيفية الخلق، بطريقة أعمق وأصوب وأكثر ملائمة للوصف القرآني، فمن الضروري الاطلاع على نتائج البحوث العلمية وفهمها فهما دقيقا؛ وبذلك تزداد معرفتنا للدلالات العلمية للألفاظ القرآنية.
القرآن يأمر بالبحث العلمي
إن الصانع عز وجل يريد أن يُعَلِم الإنسان كيف صنعت الأرض، فيختار أسلوبا تعليميا عَلِمَ سبحانه أننا نحن البشر سوف نكتشفه لاحقا. وعلم سبحانه أن الإنسان قادر على خلافة الأرض “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَٰئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً “، وهو سبحانه الذي علمه الأسماء كلها، وأمره بالتفكر في آياته والتحقق في طبيعة ظواهر الكون. إن رسالته الخاتمة تنطق بذلك، يقول جل من قائل: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴿الإسراء: ٣٦﴾ ويقول تعالى، حاثا البشر على التحقق من كيفية الصنع، “أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴿١٧﴾ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ ﴿١٨﴾ وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ ﴿١٩﴾ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴿٢٠ الغاشية﴾ إذا فالبحث العلمي فريضة قرآنية، ولا مشكلة إطلاقا أن تغيب عنا الحقيقة بعض الوقت، أثناءها لا يجب أن نفقد الإيمان بصدق القرآن، بل يجب أن يظل إيماننا ثابتا لا يتزعزع. وبالنسبة لفهمنا للقول الكريم ” والأرض بعد ذلك دحاها” إن الله سبحانه وتعالى استعمل الجذر الذي له المعنى المحوري للفعل الثنائي الذي تكون في اللسان العربي، واستعمله العرب في مرحلة سابقة من مراحل تطور اللسان العربي للتعبير عن البسط بالفعل دحا، أي إن الأرض كانت في بدأ تكونها قطعة من غاز وغبار كقطعة العجين فبسطها رب العالمين كما يبسط الخباز الفرذدقة. هذا الوصف هو وصف الحالة الأولية، عندما بدأت الأرض في التشكل. وبعبارة أخرى فإن فعل (دح الأرض) يصف المرحلة الأولى للخلق، وليس المرحلة اللاحقة، والتي هي عليه الآن بعد ملايين السنين استغرقتها في التكون. إن شكل الأرض الذي نراه الآن هو كروي، و يبدوا ذلك جليا في الصور التي أخذت من الفضاء للأرض. ولقد ثبت أيضا كيف تكون النظام الشمسي، ويقصد بالنظام الشمسي؛ الشمس ومجموعة كواكبها التي تدور حولها بما فيهم الأرض. وفيما يلي سوف أنقل من المعجم المؤصل المعنى المحوري للفصل المعجمي، والمعنى المحوري المستنبط من دلالات الحروف منفصلة ثم مجتمعة (من هامش المعجم)، والمعنى المحوري للجذر الثلاثي، ولكني هذه المرة أحاول تبسيط المقارنة بين ما يستنبط من التحليل اللغوي وما يقوله العلم، وسوف أستبعد الاستعمالات اللغوية هذه المرة وأركز على المعاني المستنبطة، وأضع خطا تحت بعض الدلالات التي سوف نقابلها لاحقا بالنظرية العلمية، وسوف يشاهد القارئ الكريم بنفسه مدى التطابق في الدلالات: · المعنى المحوري (للفعل الثنائي المشدد دَحّ): صدم أو{ضغط بعرض على جرم الشيء حتى يتداخل بعضه في بعض ململما } · الدلالة الصوتية: {انضغاط الجرم} ، {ضغط االشيء حتى يلصق بالأرض}، {الاشتمال} ، {الاتصال والتماسك}، { كف الانبساط بجعل الشيء كالقرص}، · معنى الفصل المعجمي ( دح): {الضغط القوي على الشيء}.{ دفع الشيء بعنف لإبعاده}. · المعنى المحوري للفعل الثلاثي (دحو – دحى): {بسط الشيء بسطا جزئيا بنحو الضغط مع كف أطرافه (فتستدير ولا تنتشر متسيبة)}. سوف نلاحظ إن المعنى المحوري للفعل الثنائي المشدد له دلالة تكوينية أي في مرحلة الإيجاد بداية، فدح الشيء ضغط على جرمه حتى يتداخل في بعضه بعضا. والحديث هنا ليس عن الشكل النهائي للأرض، لكنه حديث عن السحابة السديمية التي تكونت منها الأرض. وواضح أيضا من سياق الآيات الكريمة أن الله تعالى يتحدث عن المرحلة التكوينية يقول ” أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚ بَنَاهَا ﴿٢٧﴾ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا ﴿٢٨﴾ وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴿٢٩﴾ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا ﴿٣٠﴾ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴿٣١﴾ وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا ﴿٣٢ النازعات﴾. ومن المعنى المحوري للفعل الثلاثي (دحو – دحى) يكون معنى دحاها أي ضغط عليها بعرض فتداخلت بعضها في بعض وتراكمت مادتها و وكفت أطرافها عن التسيب وتم تماسكها وأصبحت كالقرص وتم تماسكها أي أصبح لها حدود كالدائرة. وهذه هي المرحلة الأولى الأساسية لتكون الأرض (الدحو)، مستنبطة من التحليل اللغوي بالأسلوب الذي اتبعه المعجم المؤصل، فماذا عن العلم؟ ماذا يقول العلم في كيفية نشأة الأرض؟ نظرية تكون النظام الشمسي، أي تكون الشمس والأرض والقمر والكواكب الأخرى في المجموعة الشمسية، تعرف باسم نظرية ” التجمع التراكمي”، أو Accretion theory بالإنجليزية.
(انظر الرابط: https://en.wikipedia.org/wiki/Accretion_(astrophysics ).
وملخص هذه النظرية – وهي حقيقة علمية – يقول بأن الشمس ومجموعتها من الكواكب كانوا في الأصل سديم غازي ( = سحابة كثيفة من الغاز والتراب) أخذت تتضاغط إلى الداخل ( إلى مركز الثقل) وفي نفس الوقت تفقد بعض حرارتها وتدور حول محور يمر بوسطها. تستمر هذه العملية فترة زمنية قد تطول إلى آلاف السنين وربما الملايين. في هذه الفترة يتجمع الجزء الأكبر من السحابة مكونا ما يعرف بالشمس البدائية، والأرض البدائية (ما تبقي من غاز وتراب )، في هذه المرحلة تكون الأرض في شكل دائرة مفرطحة أو مدحوه. وهذه العملية هي التي عبر عنها القرآن الكريم بالدحو، وكما بينا فإن الدحو ضغط يبسط ويلملم كبسط الخباز للفرذدقة.
ولبيان الكيفية نقدم الرسم التوضيحي التالي:
 
  • يسار
  • المركز
  • يمين
إزالة

خطوات تكون الشمس والكواكب

خطوات تكون الشمس والكواكب من السديم الدخاني الأول نلاحظ في أعلى الصورة السديم الدخاني الأولي الذي تكونت منه الشمس وكواكبها التابعة لها، ونراه كسحابة مكونة من جزيئات مختلفة الأحجام غير محددة المعالم. وفي علم الفلك يطلقون لفظة الغاز على التراب الكوني ذو الجزيئات الدقيقة، ويطلقون لفظ التراب لما له جزئيات أكبر حجما في التراب الكوني، أي إن الفرق بين الغاز والتراب هو حجم الجزيئات لا أكثر، ومصطلح التراب والغاز في الفلك مختلفا عما هو عليه في الكيمياء. وفي نفس الشكل تمثل الأسهم قوي الضغط إلى الداخل التي تلملم الغاز والتراب فتقربه من بعضه بعضا مما يسبب التكاثف والتماسك، حتى يأخذ شكل القرص، وكأنه قطعة عجين ( = فرزدقة) يبسطها الخباز (بالضغط، وتحديد أطرافها). ( وهذه هي عملية الدح، أي البسط بالضغط). ونتيجة لدوران هذا الدخان ينتج التشكل على هيئة قرص ململم الأطراف. وبعد ذلك تتراكم المادة في المركز وتكون في هذه الحالة تحت تأثير قوتين: الأولى تجمعها بالجذب إلى الداخل (مركز الثقل)، والثانية تدفعها إلى الخارج فتتسبب في دورانها. تظل هذه العملية فترة طويل (ملايين السنين) حتى يتم الاتزان. وتتحول هذه السحابة السديمية في النهاية إلى جسم كروي يتولد منه الضوء والحرارة سماه العرب الشمس، و يستحوذ على الغالبية العظمى من المادة الأولية. وفي هذه الأثناء أيضا يتحول بعض المادة المتبقية إلى كواكب وبنفس الطريقة (ضغط إلى الداخل يحولها إلى دائرة منبسطة، ثم تراكم عليها فيزيد من حجمها وتتكور في النهاية مكونة الأرض التي نراها اليوم). وهكذا تكونت الشمس والأرض، يتجاذب بعضهم مع بعض. ويمكننا تلخيص النظرية في خطوتين: الأولى هي تكون القرص المادي المنبسط، والثانية تكور هذا القرص والتضاغط للداخل مع إضافة لمادته تؤدي إلى زيادة في الحجم. وتكون الكلمة العربية التي تصف المرحلة الأولى هي الدحو. أما المرحلة الثانية فيصفها القرآن الكريم في آية أخرى كما سنرى. هل رأيت التوافق الرائع بين دلالات الألفاظ القرآنية وما يقوله العلم والعلماء؟ صنع فوصف بدقة: “صُنْعَ اللَّـهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ”،” أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ” ﴿الملك: ١٤﴾
***
“وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا” إذا كان المقصود بالدحو هو البسط بالضغط مع اللملمة، فما ما المقصود بطحو الأرض؟ يقول سبحانه في سورة الشمس: ” وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ﴿١﴾ وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ﴿٢﴾ وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ﴿٣﴾ وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ﴿٤﴾ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ﴿٥وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا “﴿٦﴾، فما معنى طحاها؟ أهو نفسه دحاها كما يقول المفسرون؟ دعنا نحلل لغويا اللفظة الكريمة بنفس الطريقة نقلا من المعجم لنري ماذا يريد القرآن الكريم أن يقول: الطاء والحاء وما يثلثهما (طحح – طحطح): ” طحه: رد بسطه [أي بعد بسط الشيء ضغط عليه فضغطه مرة أخرى]، وطحّه: وضع عَقِبه عليه ثم سَحَجَه [ سحَّج الخشبَ أي قشَره] المعنى المحوري (للفعل الثنائي: طَحّ): {انبساط الجرم شديدا عن ضغط شديد يسحقه أو يكاد} (صوتيا، أي دلالة الحروف): تعبر الطاء عن ضغط وتمدد، والحاء عن عرض بجفاف أو قوة، والفصل منهما يعبر عن {ضغط جرم الشيء} حتى ينبسط كما في الطح، وفي (طحو طحى) تعبر الواو والياء عن {زيادة اشتمالا أو اتصالا}. والتركيبان يعبران عن زيادة الانبساط كما في الطحا: المنبسط من الأرض. أما في تفسير الكلمة القرآنية فيقول المعجم المؤصل: المعنى المحوري: {انبساط أو انفراشٌ لجرم الشيء بامتداد من دفع بضغط شديد}: ( والأرض وما طحاها) بسطها من كل جانب (القرطبي) أي لأهلها كل في قطره، وهذا لا ينافي كروية شكلها العام ولا دورانها. ومنه: “القوم يطحى بعضهم بعضا :{أي يدفع بعضهم بعضا}(بضغط)، وطحى الشيء: أي هلك { كأنما ضُغِط فسُحق}. معنى الفصل المعجمي (طح): هو {الانبساط عن ضغط كطح الشيء بسطه بسحجه بالعقب} – في (طحح) ، وكالطحا المنبسط من الأرض – في (طحو طحى). (أهـ)ـ ومن الاستعمال العربي (القوم يطحى بعضهم بعضا) نلمس دلالة الضغط الذي يؤدي إلى التلاحم والالتصاق، ومن طحى الشيء أي ضغط حتى سحق، وانبساط الشيء يأتي من الضغط عليه. ومن أساس البلاغة نجد استعمالات إضافية مهمة: وضربته ضربة طحا منها أي امتد، أو وقع ممتدا منبسطا على الأرض من شدة الضربة، وطحا بفلان شحمه إذا سمن‏ أي ازداد حجما ووزنا وثقل به وزنه فانبسط على الأرض فتثقل مشيته، ومظلة طاحية‏:‏ أي عظيمة منبسطة‏. لكن ما علاقة هذه الاستعمالات العربية بما حدث للأرض؟ الحقيقة إن دلالات هذه الاستعمالات العربية للفعل طحا كلها حدثت في مراحل تكون الأرض أثناء تكوينها : ضغط شديد وتلاصق وزيادة في المادة المكونة، وتلاحم وانبساط وكبر الحجم. فهذه المرحلة أخذت ملايين أخرى من السنين تتراكم فيها المادة على جسم الأرض الذي بدأ في التشكل، وتنخفض درجة الحرارة تدريجيا فتضاغط و تنسحق من الضغط إلى الداخل. وكل هذا يحدث والأرض تدور حول محورها وحول الشمس الآخذة أيضا في التشكل، ف” نظرية التكاثف التراكمي” (Accretion theory ) تصف كيفية تكوّن النجوم والكواكب، أي تكون الأرض التي هي واحدة من كواكب المجموعة الشمسية. فالطحو إذن يمثل المرحلة الثانية في تكون الأرض. دحى وطحي الأرض في يومين إذن فالقرآن الكريم يتحدث عن الدحو والطحو وهما المرحلتان اللتان ذكرهما القرآن في الآية الكريمة” قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ” ﴿٩ فصلت ﴾، فتكوّن الأرض تم على مرحلتين زمانيتين (= يومين). وفي آيات أخرى وصف إعداد الأرض لتصبح صالحة للحياة عليها في أربعة مراحل (أيام) كما يتبين في الآية التالية: ” وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ” ﴿١٠ فصلت﴾ ومن الواضح فإن الاستعمال القرآني لكلمة اليوم في هذه الآيات تعني مرحلة زمانية، تطول أو تقصر، ولكن كل مرحلة لها ما يميزها عما بعدها. وفي المعجم المؤصل نجد شرحا لاستعمال لفظة اليوم في القرآن، ففي القرآن استعمل لفظ اليوم مرادا به: مجرد حين ما، كما في “يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ” (36 التوبة 9)، وللتعبير عن مدة يعلمها الله تعالى كما في:” بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ” وكذلك “إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّـهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ” (54 الأعراف 7) مزيد من التوضيح والبيان القرآني: لم يترك القرآن الكريم صغيرة ولا كبيرة لهداية البشر في العلم إلا أحصاها، وها هو يوضح لنا معني ومواصفات السديم الذي خلقت منه الأرض والسماء (السماء كل ما علا عن الأرض)، يسميه القرآن الدخان، فما هو تعريف الدخان؟ الدال والخاء وما يثلثهما دخان: (دخخ – دخدخ): الدخ بالفتح والضم : الدخان. والمعنى المحوري: {تخلخل أثناء الشيء المنتشر وخفة كثافته}: كالدخان المعروف. صوتيا: الدال تعبر عن الضغط الممتد والحبس، والخاء تعبر عن تخلخل، والفصل منهم يعبر عن {تخلخل أثناء الشيء مع انتشاره} – كالدخان، وفي ( دخن) زادت النون التعبير عن أن هذا { التخلخل هو في التكوين الداخلي للشيء}. أي أن الدخان الذي خلقت منه السماء هو مادة متخلخلة الأثناء، منتشرة، قليلة الكثافة، وذو درجة حرارة عالية، يشبه للناظر دخان الدنيا.
الأسماء القرآنية لها دلالة علمية:
ومن الغريب أيضا أننا نلاحظ أن أسم الشيء، الذي ورد ذكره في القرآن الكريم، يحمل في طياته مواصفاته العلمية. فعندما نتأمل في كلمة دخان نفسها نجد أن لها دلالة تكوينية ( خلقية) كما وضح في تفسيرها أعلاه، وكما سيزيد وضوحا في التحليل اللغوي للفظة الشمس. الشين والميم وما يثلثهما (صوتيا) الشين تعبر عن تفش، والميم عن ضم التئام واستواء، والفصل منهما يعبر عن {تجمع المنتشر} منسحبا إلى أعلى (كالأنف الأشم والشم). وفي (شمس) تعبر السين عن نفاذ دقيق حاد، ويعبر التركيب معها عن {نفاذ هذا الدقيق الحاد من الجرم} المتجمع فيه كالشمس. ومعنى الفصل المعجمي (شم) : جمع ما هو منتشر منسحبا إلى أعلى والمعنى المحوري للتركيب (شمس): {حدة بالغة تتركز في الشيء وتنفذ منه وتظهر من كثرتها} (أو شدتها، أو طاقتها العالية). وأعلاه ذكرنا كلا من: الدلالة لكل حرف (= صوت لغوي) فالشين مثلا تعبر عن {تفش، انتشار}، والميم تعبر عن {التئام نتيجة تجمع المنتشر}، ويكون الدلالة العلمية للفصل المعجمي {شيء منتشر متفش، يتجمع ويلتئم} وهذه الدلالة تُكوّن على الأقل ثلثي دلالة اللفظ الثلاثي. بعد ذلك أضيفت السين لهذا الفصل المعجمي في مرحلة لاحقة في تطور اللغة. وفي حالة لفظة (شمس) أضافت السين {دلالة الحدة البالغة} (= الحرارة الفائقة الشدة والحدة) التي نتجت من التفاعلات النووية، ويكون المعنى المحوري معبرا لتطور دلالة لفظ (شمس) إلى: جسم ذو طاقة عالية حادة في قلبه ومركزه وتندفع منه ( أو تنفذ، أو تشع) هذه الطاقة إلى خارجه والبيئة المحيطة. فالشمس إذا: تكونت أصلا من {سحابة غازية، أو سديم، منتشر} { يتضاغط إلى الداخل ويلتئم مكونا الشكل الكروي}، ونتيجة للضغط العالي ودرجة الحرارة العالية ذو { الحدة البالغة} في المركز تبدأ التفاعلات النووية وتولد الطاقة الضوئية الحرارية التي{ تُشع وتنتشر}. الوصف العلمي للشمس يقول العلم إن الشمس جرم سماوي، أو نجم، كانت في بدأ تكونها {سحابة من الغاز ألنجمي المنتشر}، ونتيجة لوقوع قوى تجاذب للداخل في اتجاه مركز ثقل تلك السحابة؛ تضاغطت للداخل { تجمع المنتشر} تحت تأثير ذلك التجاذب المادي، وباستمرار التجاذب إلى الداخل ( تكورت مادة الغاز الكوني) أدى إلى تولد الضغط العالي، والذي أدى إلى التهاب القلب وبدء التفاعلات النووية الاندماجية التي ينتج عنها طاقة هائلة – وهذه هي الحدة البالغة التي يتكلم عنها المعنى المحوري – وهذه الطاقة تنشر (أي تشع) في صورة أشعة ضوئية وحرارية. ومن التحليل أعلاه يتبين إن الدلالة العلمية للفظ الثلاثي يحمل دلالتين علميتين: الدلالة الأولى التي يدل عليها الفصل المعجمي الذي يدل على أسلوب تكون الشيء [في مثالنا هذا السحابة الغازية التي من صفاتها الانتشار والتفش تلتئم نتيجة التجاذب إلى الداخل، أو تتضاغط في اتجاه مركز السديم]. و الدلالة العلمية الثانية تأتي في المعنى المحوري الذي يدلل على ما أصبح عليه هذا الشيء المتفشي المنتشر إلى مركز للحدة البالغة التي تدفع الطاقة وتشعها. و نعيد بتلخيص: دلالة الحرف الأول: تفش وانتشار دلالة الحرف الثاني: تجمع والتئام المنتشر دلالة الحرف الثالث: حدة بالغة في القلب تظهر وتندفع منه. وتكون دلالة لفظة شمس العلمية: شيء متفش تجمع والتئم، فأصابته حدة بالغة (حرارة بالغة الشدة تنتج الضوء) في قلبه تنفذ بقوة منه. وبالطبع نشاهد التوافق الكبير بين دلالة اللفظ والحقيقة العلمية.
***
النجم النون والجيم وما يثلثهما (صوتيا): النون للنفاذ الباطني اللطيف، والجيم تعبر عن جرم كثيف غير صلب، والفصل منهما يعبر عن {نفاذ كثيف غير صلب من باطن الشيء}، كالقيح من القرحة. وفي (نجم) تعبر الميم عن التئام ظاهر الجرم على ما في جوفه، ويعبر التركيب عن نفاذ جزئي أي دقيق من سطح ملتئم كنجم السماء في رقعتها. والفصل المعجمي (نج) النفاذ بغلظ وكثافة أو قوة مما يحتوي كما يتمثل في سيلان القيح من القرحة – في (نجج) وبروز المناجم والنجوم في (نجم) المعنى المحوري: طلوع الجرم – أو نتوءه – دقيقا من سطح ينضم عليه، كنجوم السماء تبدو دقيقة والمعروف علميا إن النجوم، بما فيها الشمس؛ هي أجرام سماوية ينفذ منها الضوء بقوة بعد أن تولده (أي بعد أن يتولد بداخلها). ومن هنا نرى إن مجرد اختيار القرآن لهذا اللفظ يكون معبرا ودالا على صفة من صفاته، سواء تكوينية أو وظيفية.
***
الأرض الراء والضاد وما يثلثهما (صوتيا): تعبر الراء عن استرسال الجرم برقته أو حركته؛ والضاد عن الغلظ مع طراءة وليونة، فيعبر الفصل منهما عن {تضخم الشيء مع طراءة ورطوبة}، كالبعير الرضراض الكثير اللحم. وفي أرض سبقت الهمزة بضغطها الذي يعطي التجمع والتكتل، وعبر التركيب معها عن { زيادة تجمٌّع تتمثل في الضخامة أو الكثافة مع رخاوة ما} كالأرض. معنى الفصل المعجمي ( رض): {تضخم الجرم مع رخاوة باطنه} كما يتمثل ذلك في كثافة جِرْم الأرض أو ضخامتها مع لطف باطنها المتمثل في إنباتها مالا يحاط به من النبات الذي هو غض في أول أمره وغالب حاله – في (أرض). (أرض): المعنى المحوري: { كثافة الجرم مع غِنَى باطنه بلطيف تقوم به وعليه الأشياء} – كهذه الأرض التي نحن عليها، فهي كثيفة الجرم وتحمل كل ما عليها، وغنية الباطن بما ينبت النبات. وفي استنباطنا للدلالة العلمية للفظة الأرض نقول: في بداية نشأة الأرض {تضخم جرمها} والتف حول قلبها {الرخو} ، من الحديد والنيكل المنصهر، والأرض من الكواكب الأربعة الأقرب إلى الشمس، وهي من الكواكب الصخرية عالية الكثافة، أما الكواكب الأربعة الأخرى فهي غازية. ومن المعنى المحوري نأخذ دلالة التفاف طبقات الأرض الأخرى حول الحديد والنيكل. أما كيفية تَكَوّن الأرض فتظهر بجلاء في التحليل اللغوي لفعلي الدحو والطحو ذات الفصل المعجمي (دح)، و ( طح)، المشروحة أعلاه.
***
القمر القاف والميم وما يثلثهما (صوتيا): تعبر القاف عن تعقد وتجمع في العمق، والميم عن تضام ظاهر واستوائه. والفصل منهما يعبر عن {جمع منتشر على الظاهر جمعا مستقصيا، يكون تراكمه تسنُّمَا} ( أي علوا) كقَمّ البيت (أي كنسه) وقمة النخلة. وفي قمر تعبر الراء عن استرسال، ويعبر التركيب عن استرسال التجمع ازدياد أو محاولة كقمر السماء وقمر المقامر. والمعنى المحوري لـ( قمر) { تزايد أو استرسال في الضم والتجمع}. كجرم القمر يتزايد ليلة فليلة حتى الخامسة عشرة، ثم حملوا سائره على أوله، وكأخذ المقامر من صاحبه، وأخذ الصيد والزوجة. الفصل المعجمي (قم) : {تجمع الشيء أو تضامه في كتلة قوية} مع تسنم أو ارتفاع. كما يتمثل في تجمع جِرم القمر وتزايده ليلة بعد أخرى. ونلاحظ إن دلالات التجمع والتضخم تظهر في كل من لفظتي الأرض والقمر وذلك لأن الشمس والأرض والقمر صنعا من سحابة دخانية واحدة استحوذت الشمس على الغالبية، والأرض على المتبقي، ثم تزايد الاسترسال في الضم والجمع في القمر.
***
تعريف الكوكب الكاف والكاف وما يثلثهما ( كوكب)؛ [ قيل في هذا التركيب إنه رباعي ، والواو أصلية، وإنه من ( ,كب) أو ( كوب) والكاف زائدة. والصاغاني تبع الجوهري الذي ربما تبع (الخليل في) العين في وضعه هنا. وإضافتي – يتابع صاحب المعجم – أن معنى الكوكب لا تناسب استعمالات ( وكب) التي من عناصر معناها السواد عكس ما هنا]. المعنى المحوري: { لمعان الشيء المتجمع أو المتكتل}، كالنجم، والبياض في سواد العين وكبريق الحديد والحصى والنور. ولمعنى التجمع قالوا: كوكب كل شيء معظمه…. والذي جاء من هذا التركيب في القرآن هو كوكب السماء وجمعه كواكب “إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب” [الصافات: 6] وأود أن أضيف: إن القرآن الكريم يرجح هذا المعنى المحوري الذي توصل إليه صاحب المعجم. ونلاحظ أيضا إن القرآن اختار الاسم الذي يحمل أظهر أوصاف الكوكب بحيث يكون من السهل التعرف عليه، وهو اللمعان الذي يميز الكوكب عن غيره من الأجرام السماوية، بالنسبة لنا على الأرض.
أسلوب قرآني آخر في التفصيل العلمي
يمكن تأكيد المفهوم أعلاه؛ بأسلوب (شرح القرآن للقرآن) أو ما أسميته ، أسلوب (الإحكام والتفصيل)، حيث يحكم الله تعالى اختيار المفردة القرآنية لتعطي دلالة محددة، لا تتوافر في غيرها من مترادفات، ويفسد المعنى المراد إذا استعملت أحد المترادفات ( الترادف عند البشر جائز للشرح والتوضيح والتقريب، ولكنه لا يجوز في القرآن، فلكل لفظ دلالته). وبعد الإحكام؛ يفصل الله تعالى المراد في آيات أخرى متناثرة في أرجاء القرآن. ويمكننا التعرف على الدلالة ألمراده بجمع استعمالات الكلمة في المواضع المختلفة الواردة في القرآن الكريم، باستخدام البحث الالكتروني في القرآن باستخدام الجذر ( الثلاثي)، ثم نستنبط المعنى. ولكي نوضح بأسلوب عملي كيف يُعرف لنا القرآن الكريم ما معنى الكوكب؛ نجمع كل ما ورد في القرآن من آيات بها لفظة الكوكب، فنجدها كما يلي: 1. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴿الأنعام: ٧٦﴾ ومن هذه الآية الكريمة نستنبط إن الكوكب لا يظهر إلا بالليل عندما يختفي ضياء الشمس، أي إن نوره ضعيف نسبيا. 2. إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴿يوسف: ٤﴾ من هذه الآية الكريمة نستنبط إن الكوكب من عائلة الشمس والقمر أي جرم سماوي مثلهما. وإن الكواكب متعددة في السماء. 3. اللَّـهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي اللَّـهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّـهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّـهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿النور: ٣٥﴾ والكوكب الدرّيّ: منسوب إلى الدرّ أي: أبيض متلألئ. ومنها نفهم إن الكوكب هو الجرم الذي يبدو لنا أبيض متلألئ. 4. إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ﴿الصافات: ٦﴾ جمع كوكب كواكب ترصع صفحة السماء وهي متعددة. 5. وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ﴿الإنفطار: ٢﴾ وهي آية تتحدث عن انتثار الكواكب يوم النهاية. ومن هذا المثال يبدو لنا كيف وصف لنا القرآن المراد بذكره لفظة كوكب. وتوجد عشرات الأمثلة تبين تكرار هذا الأسلوب القرآني التفصيلي المذكور في الآية الكريمة ” الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ” ﴿هود: ١﴾ *** أرجو أن يكون هذا البحث سهلا للفهم ومبينا أهمية هذا المنهج الجديد في التحليل اللغوي لألفاظ القرآن الكريم، وأدعو الله تعالى أن يشرح صدر من يقرأه لما فيه من صواب وحق، حتى يتأتي يوم نزاوج فيه بين القرآن والبحوث العلمية، ونتأكد من إن القرآن الكريم كتاب علوم، أو بتعبير القرآن كتاب هداية، فنتخذه نبراسا لحياتنا نستفيض من علومه ونؤكدها ونشرحها بالبحث العلمي الرصين، فنكون بذلك جديرين بالشهادة على الناس. ومن هنا أقترح إدخال تدريس العلوم الطبيعية – بشكل مبسط – لكل طلبة الماجستير والدكتوراة الذين ينون التخصص في التفسير. أما من تخرجوا فليس في طلب العلم خجل أو تكبر خاصة عندما نشتغل بتفسير كتاب الله تعالى. ” رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ۚ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ” ” لَا يُكَلِّفُ اللَّـهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ” صدق العلي العظيم
كيميائي وفيزيائي
د. محيي الدين عبد الغني النرويج
في رمضان 1437 هـ ، يونيو 2016 م
للتواصل والاستفسار والتعليق moheyea@gmail.com
تليفون سكايب، وفيبر، وواتس أب: 004741042790
#تطوير_الفقه_الاسلامي
تعليق واحد
  1. ambmacpc :

    أخي الكريم الدكتور محي الدين عبد الغني رعاه الله تعالى
    أما بعد السلام والإكرام
    ليس لدي أدنى شك بأنك تحب القرآن وتسعى لإبرازه ولفهم معانيه وأتمنى أن يكون هدفك العمل به وتعليم إخواننا ليعودوا إلى كتابهم السماوي ويتركوا ما كتبه البشر فيما غبر لمن غبر وليس لنا. ثم إنك تعرف رأيي فيما كتبه المرحوم الدكتور حسن جبل غفر الله تعالى له ولنا وسيعطيه ربه أجره على سعيه كما سيعطينا أيضا جل جلاله. لكننا نحن نريد أن نصل إلى نتيجة مرضية تساعدنا على فهم أوسع لما يريده منا ربنا. قرأت الصفحات الثلاثين التي تفضلتم بإرسالها إلينا جميعا ولم يحصل لي أي ضجر حين القراءة بل استفدت منها واستمتعت بها؛ ولكنني لم أجد فيها دلائل على ما تفضلتم بادعائه. وحتى أختصر الطريق فأقول لك ما قلته سابقا لأخي الفاضل قصي الموسوي. طلبت منه أن يكتب تفسيرا للقرآن على أساس أصوات الحروف التي صرف شطرا من عمره لفهمها بعد أن قرأ ودرس ما كتبه المرحوم المهندس عالم سبيط النيلي؛ أو يفسر سورة كبيرة واحدة مثل سورة البقرة أو الأنعام ليعطينا مثالا عمليا على صحة ما يؤمن به.
    لقد وضع لنفسه جدولا لمعاني أصوات الحروف والحركات وهو مغاير لما وضعه المرحوم حسن جبل وحينما عملت مقارنة بينهما في إحدى مقالاتي أبلغني أخي قصي بأنه لا يريد نشر الجدول بل هو لاطلاعي فقط. ليس لقصي دليل ولا لحسن جبل دليل بل مجرد ادعاء. والغريب أن أول جلسة عامة أعلن عنها قصي ليقوم بتفسير البرزخ وحضرتها ورأيته لا يتحدث عن أصوات الحروف بل يعلن منهجا أسماه المنهج اللفظي الترتيلي. ما نفهمه من اسم المنهج هو ما قام به المرحوم الزمخشري في تفسير الكشاف لبيان بعض معاني القرآن الكريم وتبعه بعض المفسرين وقام المرحوم الطباطبائي المعاصر باتباع ذلك البرنامج بصورة موسعة تقريبا. كما أنني أقوم بنفس العمل ولكن أخي قصي يقول بأن برنامجه مختلف وأنا ليس لي وقت أن أقرأ كل ما يكتبه إخواني الأعزاء ولكنني أطلب التنفيذ ولا يفيد ذكر القوانين والقواعد.
    لقد سبق وأن وضع المرحوم زكريا بن فارس الرازي معجم مقاييس اللغة على أساس ما فهمه من خمسة كتب مهمة منها العين للخليل بن أحمد وجمهرة اللغة لابن دريد. وضع مقاييس على أساس تلك الكتب وهو عمل بديع ولم يضع مقاييس على أساس التخيلات كما فعله الإخوة الصوتيون ولكن الرازي لم يفسر القرآن كما يبدو. وجاء بعده بقرنين المرحوم الراغب الأصفهاني وكتب المفردات متجاهلا مقاييس اللغة. والراغب مفسر للقرآن ولذلك فإن مفرداته اللغوية يمكن أن تكون مرجعا للمفسرين. إنه أثبت إلى حد كبير صحة فهمه لمعاني الألفاظ العربية بالسعي الناجح لفهم كل القرآن.
    واسمح لي أن أنقل لك خلاصة ما تفضلتَ بكتابته تفصيليا حول معنى دحو الأرض: وباختصار نقول معنى دحاها أي بسطها، كما يبسط الخباز قطعة العجين فيجعلها مستديرة ولكن منبسطة. انتهى النقل.
    لنفرض أن ما توصلتم أو توصل إليه المرحوم حسن جبل من معنى الدحو صحيح فكيف تفسر الآية التي تليها وهي تابعة لها والدحو سبب حيث قال سبحانه في سورة النازعات ويمكن أن نقسم الآيات المترابطة إلى ثلاث مجموعات:
    أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29).
    وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا (31).
    وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33).
    نلاحظ بأن الآية 29 ليست معطوفة على الآية 27 لكنها معطوفة على الآية 28.
    وأن الأرض معطوفة على السماء ولا عطف بين الآيتين 30 و31. كما نلاحظ بأن الجبال أيضا معطوفة عليها ولا عطف بين الآيتين 32 و 33.
    نعرف من ذلك بأن الدحو سبب لإخراج الماء والمراعي من الأرض كما أنها مع إرساء الجبال سبب لخروج النباتات الهادئة بسلام وأمان لتكون وسيلة حياة وعيش لنا ولأنعامنا. وأقصد بالنباتات الهادئة الحبوب وعلف الحيوان وبقية النباتات التي لا ترتفع كثيرا على الأرض ولا تنطوي على سموم ومضار للبشر. فالمحتمل بأن الدحو كان سببا لظهور العصر النباتي الأول الذي صاحبه ظهور الحيوانات آكلة الأعشاب الضخمة وهي الديناصورات لكن العصر النباتي الثاني تم بعد تحرك الألواح الأرضية (Tectonic plates) وتشكل الجبال لتهدأ الأرض. وهناك إشارة أخرى إلى المرعى الأول الذي تم تصفيته بأمر الله تعالى مع انقراض الديناصورات وهي في سورة الأعلى: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى (5). تلك هي كما أحتمل المراعي الأولية غير الهادئة التي تغذت عليها الحيوانات الضخمة. ثم قدر الله تعالى أن تموت كل تلك الحيوانات وتدفن هي والنباتات الضخمة في الأرض فتتحول الجميع إلى غثاء أسود هي الفحم الحجري والنفط.
    يمكنك أن تدرك بأنني ما ذهبت وراء الألفاظ ولا اقترحت معاني باطنية للأصوات لكنني استعملت نفس المعاني المعروفة بين العرب يوم نزول القرآن الكريم وفهمت منها مسائل مترابطة ومتجانسة قد تكون صحيحة أو قريبة من الصحة. وأنا مفسر أستعمل الفكر والدقة البالغة في فهم الآيات وأبحث عن كل المفاهيم المتعلقة بالآية في كل القرآن تقريبا وأنا رافض لكل ما تفضل به المرحوم حسن جبل وكل الذين تحدثوا عن أصوات الحروف ابتداء من أفلاطون وانتهاء بالنيلي وجبل. لا النيلي ولا جبل قدما تفسيرا متكاملا متجانسا مثل العبد الفقير إلى ربه. إن ربنا الذي يعلمنا وليس هذه المقترحات غير المستدلة وغير الدقيقة والبعيدة عن حقيقة عفوية اللغات. هي كما قال ربنا ألسن في حقيقتها ولكنها لغات لغير من تكلم بها. وأعني بصورة مثال بأن العربية لسان محمد عليه السلام وقومه ولكن الفارسية والإنجليزية وكل اللغات غير العربية لغات مبهمة لهم ولذلك سموها لغات كما أظن والعلم عند المولى عز اسمه.
    واسمح لي أن أستعمل فهم المرحوم حسن جبل بلا دليل للشين بمعنى التفشي والميم بمعنى الالتئام والاستواء حسب نقلكم. ثم ننظر إلى الكلمات التي تبدأ بهما:
    شمت: فرح العدو بخطأ الشخص أو مصيبته.
    شمر: تعني مر بجدية واختيال عند العرب.
    شمز: تنفر النفس مما تكره وتضجر منه.
    شمس: يقول ابن فارس في المقاييس: أصل يدل على تلون وقلة استقرار. تمام خلافا لجبل وكيف نقول بأنه على باطل وجبل على حق مع تقدمه واقترابه من عرب البادية الأصليين أكثر من الدكتور جبل. ثم شمس عند اللغويين يعني منع الفرس الراكبَ على ظهره. ولنفرض أن كل اللغويين لا يفهمون وجبلنا هو الفاهم الأوحد فكيف نصل فعلا من شينه وميمه إلى معنى الشمس إلا إذا جاء الدكتور محي الدين وبسط لنا الموضوع فهل هكذا نعرف اللغة أخي العزيز؟ وهل قال الله تعالى أو أشار إلى ما تفضلتم به من قريب أو بعيد لنتعرف على الأصوات وأصول الكلمات واشتقاقاتها لنعرف اللغة أم قال تماما عكس ذلك؟
    شمص: يعني أثار أو أقلق الدابة لتتحرك أو تسرع.
    شمط: يعني خلط ويقولون للذي اختلط سواد شعره ببياض شعره: شمط.
    شمظ: بمعنى المنع وأحيانا الخلط أيضا.
    شمع: لموم العسل ويستعمل نفس الكلمة لدى البعض للذين يمزحون كثيرا.
    شمق: للنشاط ومرح الجنون.
    شمل: للتعميم وللأخذ ذات الشمال.
    شمم: لما نحسه بالأنف وكذلك للقرب والبعد.
    فهل يمكن أن نفسر تلك الكلمات على أساس الأصوات أم نقول بأن كل العرب أخطأوا ونأتي بمعاني جديدة حسب ادعاء الصوتيين؟
    وأما المعنى الذي أظنه لقوله تعالى: والأرض بعد ذلك دحاها. فـ “بعد ذلك” تعني الارتباط بما قبلها وهي: أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33). بعد أن بنى الله تعالى السماء وهي هنا الشمس كما يبدو والغطش وإخراج الضحى من خواص الأرض ولكن بعد أن تتصلب القشرات الأرضية أي بعد أن تحولت الأرض من الحالة الغازية الأولى وتكامل بنيانها. بعد ذلك دحى الله تعالى الأرض ليُخرج الماء وينبت المراعي. المياه كانت في باطن الأرض علميا ولقوله تعالى في سورة المؤمنون: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18). وهي المياه الأولية التي نزلت احتمالا من وجه الشمس حيث تصنع المياه والواقع أن الكون مليء بالمياه. تلك هي حصتنا التي لا تنقص ولا تزداد فأسكنه الله تعالى في باطن الأرض. بالطبع فأنا لا أظن بأن باطن الأرض ينتج المياه كما يحتمل بعض العلماء.
    هذه المياه خرجت أو تخرج مع الثورات البركانية عادة على شكل حمم وهي التي شكلت الأحواض المائية من محيطات وبحار وأنهار، كما أنها شكلت بعض أنواع الجبال الفوقية احتمالا. وأكبر الثورات البركانية حصلت حين تحرك العوامات الأرضية بصورة نشطة لتنظيم البحرين الأساسيين (الهادي والأطلسي) وتكوين القارة الأمريكية. قال تعالى في سورة النمل: أَمَّن جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61). وقال تعالى في سورة ق: وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7). فالمياه التي أودعها الله تعالى باطن الأرض خرجت تدريجيا مع الحركات الجيولوجية الكبرى قبل خلق الأنعام والإنسان بل وقبل خلق الجمال.
    واسمحوا لي بأن أعترف بأنني أجهل معنى بناء السماء للشمس. هناك قبة تحيط بالكون وهي مبنية فعلا ولكن لا يمكن أن تشير الآية إلى تلك القبة العظيمة إذ لا علاقة لها بالليل والضحى بالنسبة لأرضنا.
    بعد هذه الدراسة المختصرة نعود إلى اللغويين لنراهم كيف فسروا الدحو من واقع استعمالات العرب وليس من التخيلات والأوهام. يقول الراغب في مفرداته: قال تعالى: {والأرض بعد ذلك دحاها} [النازعات/30]، أي: أزالها عن مقرها، كقوله: {يوم ترجف الأرض والجبال} [المزمل/14]، وهو من قولهم: دحا المطر الحصى عن وجه الأرض، أي: جرفها، ومر الفرس يدحو دحوا: إذا جر يده على وجه الأرض، فيدحو ترابها، ومنه: أدحي النعام، وهو أفعول من دحوت. انتهى النقل.
    وأما اللغويون الذين قالوا بأن الدحو معناه البسط فهم ليسوا محققين مثل الراغب الذي فسر القرآن. ولننظر إلى ما قاله ابن فارس في مقاييس اللغة:
    الدال والحاء والواو أصلٌ واحد يدلُّ على بَسْطٍ وتمهيد. يقال دحا الله الأرضَ يدحُوها دَحْواً، إذا بَسَطَها.
    ويقال دحا المطرُ الحَصَى عن وجْه* الأرض.
    وهذا لأنّه إذا كان كذا فقد مهّد الأرض.
    ويقال للفرَس إذا رمَى بيديه رمْياً، لا يرفع سُنْبُكَه عن الأرض كثيراً: مرّ يدحُو دَحْواً. انتهى النقل.
    يمكننا ملاحظة الفرق الواضح بين القولين من العالمين اللغويين. فالراغب باعتباره مفسرا لا يفسر الدحو بمعنى البسط بل بمعنى الإزالة عن المقر والرمي ولكن ابن فارس الذي أراد أن يراعي تفسير المفسرين المخطئين قال بأن دحا المطر الحصى عن وجه الأرض وهو يعني التحريك في واقعه؛ قال بأن ذلك باعتبار أنه بذلك يمهد الأرض. هذا تفسير ضعيف واضح الضعف.
    فدحا لا يعني بسط كما كنا نظن بل يعني هز هزا عنيفا فقد تكون إشارة إلى تحرك العوامات التحتية التي ساهمت في إخراج المياه من باطن الأرض والعلم عند الله تعالى.
    وأما معنى طحا في سورة الشمس فلننظر إلى الآيات الكريمة من بدايتها لنطلع على المشهد الذي تروم السورة إظهارها لنا لتصل إلى نتيجة أن الله تعالى قد سوى النفس مع البدن وألهمها فجورها وتقواها. وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاّهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا (5) وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10). الضحى يعني امتداد الشمس وهي غاية ما نتوقعه نحن البشر من شمسنا. والقمر إذا تلاها بمعنى أن القمر اقتبس النور من الشمس وتلا الشمس مباشرة حتى لا تنقطع الضياء عن الناس وهو غاية ما نتوقعه من القمر أن يمدنا بالنور في غياب الشمس. والنهار وهو وقت النشاط فحينما يتجلى النهار فإننا نأخذ قسطا وافرا منه لنزداد نشاطا وحركة فنفيد ونستفيد. فهو غاية ما نتوقعه من النهار بأن يظهر ظهورا كاملا ليمدنا بالنشاط. والليل إذا يغشاها وهو غاية ما نتوقعه من الليل أن يستر علينا لنرتاح تحت ظلال الليل والذي يعيش في المناطق القطبية يعرف قدر الليل أكثر من الذين يمرون على الليل والنهار يوميا سواء بسواء.
    السماء في الآية قد تشير إلى القبة المحيطة بالكون وهي مبنية على شكل قوالب مربعة من الثلج وفارغة في الوسط بحيث تنفتح حين استمرار الكون في التوسع لتتخللها قوالب جديدة فتبقى القبة مبنية على شكل سقوف بعض مواقف السيارات تقريبا كما أحتمل. هذه هي الصورة النهائية للقبة المحيطة بالكون وبدون هذه القبة فإن الكون سينهار برمته لأنها هي التي تبادل النجوم والمجرات الواقعة في حواف الكون بالجاذبية لتسير في مداراتها بيسر ولا تتعرض للانهيار؛ أو تشير إلى الشمس وهي سماء أيضا بالنسبة لنا. فإذا كانت الآيات تتحدث عن المراحل النهائية للكائنات فإن آية والأرض وما طحاها تتحدث عن المراحل النهائية أيضا. ولنكمل الآيات قبل أن نناقش طحاها. ونفس وما سواها وهي آخر مرحلة تكاملية للكائن الجديد حيث يكتسب النفسَ الإنسانية الرفيعة فتستعد لاستلهام الإمكانات المتاحة من الفجور والتقوى.
    فقد أفلح من ساير تشريع ربه في وجوب تنمية النفس وتطويرها كما تنمو وتتطور كل الكائنات الأخرى وخاب من غطى على حركة النمو والتطور فمنع عن نفسه المزيد من العلم والمعرفة التي تسبق المزيد من الإيمان.
    وأما بقية الآيات التي جاءت كمثال للحقائق المذكورة في الآيات العشرة فهي: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15). اختار الله تعالى من بين قصص الأنبياء قصة ناقة صالح وقومه قوم ثمود. إنهم لم يسايروا تشريع السماء بل طغوا بمعنى أنهم طغوا في اتباع أهوائهم ولم يتنازلوا للحقيقة فلم يسعوا لتزكية نفوسهم. اتضح ذلك من أنهم وافقوا على تأييد أشقى أشقيائهم ليعقر الناقة التي بعثها الله تعالى آية لهم. وما هي هذه الناقة؟ هي ناقة حملت نور الله تعالى ولذلك سماها الله تعالى ناقة الله. مثالها مثال أخينا الكبير موسى الذي حمل نور الله تعالى حيث قال له سبحانه كما في سورة طه: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41). لم يقل سبحانه ذلك لبقية الأنبياء. فحمل موسى قوة إعجازية مستمدة من نور الله تعالى المباشر لحظة تشرفه بالتكليم الأول واقترابه من تلك النار العظيمة والمقدسة بحيث لا يحترق بل يستمد منها. فقام موسى بالمعجزات وأثبت لفرعون بأن المعجزة في كيانه وليس في العصا بأنه أخرج يده من جيبه فرأوها بيضاء تشع نورا.
    والناقة هي التي حملت نفس النور احتمالا فكانت تشرب كل المياه المقدرة لقرية بالكامل في يوم كامل جعله الله للناقة واليوم الثاني لا تشرب شيئا فيكتفي كل أهل القرية بالماء. هذا يعني بأن الناقة كانت تحمل قوة رهيبة في كيانها وهي التي تحول كل تلك الماء إلى بخار أو أية مادة غازية أخرى كما حولت الطاقة المهيبة في كيان موسى كما كبيرا من المواد إلى لا شيء في يوم الزينة. وأحتمل بأن نفس الطاقة الرهيبة بعد عقر الناقة تحولت إلى حواصب عاتية خلال ثلاثة أيام فدمرت قوم ثمود. فالمثال الذي ذكره القرآن في هذه السورة مناسب جدا لمفاهيم السورة بأن النفس التي صنعها الله تعالى من روحه قد تتحول إلى عامل عذاب لصاحبها كما تحولت ناقة الله تعالى إلى عامل عذاب لقوم ثمود وكما تحول نور موسى إلى عامل تدمير لقدر كبير من ممتلكات فرعون.
    والآن نأتي لمعنى طحو الأرض. أصل معنى الطحو في العربية هو الامتداد وليس الانبساط ولكنهم لم يجدوا معنى للآية الكريمة فظنوا بأن معناها انبساط الأرض ولذلك فسروا الكلمة بالانبساط أيضا والمعنيان على كل حال متقاربان. وهناك بعض الأشعار العربية تستعمل فعل طحّى مشددة من باب التفعيل تعني الانبطاح على الأرض أو إسقاط حيوان أو إنسان على الأرض بحيث ينبطح ويمتد رجلاه. كقول صخر الغيّ:
    وخَفِّضْ عَليكَ القَولَ، واعْلَم بأَنَّني منَ الأَنَسِ الطَّاحِي عليكَ العَرَمْرَمِ
    وقال صاحب مقاييس اللغة: ويقال طحا بك هَمُّكَ يطحو، إذا ذَهَبَ بك في الأمر ومدَّ بك فيه. قال علقمة:
    طحا بك قلبٌ في الحِسانِ طَروبُ بُعَيدَ الشَّبابِ عَصْرَ حان مشيبُ
    انتهى النقل.
    علقمة هو علقمة بن عبدة الفحل المتوفي سنة 20 قبل الهجرة.
    وقال تعالى في سورة الانشقاق: وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4). امتداد الأرض كما أظن إشارة إلى حركة الألواح التحتية لإيجاد عملية التوازن والقضاء على الحواصب العاتية. لكنه تعالى لم يستعمل نفس كلمة الامتداد لبيان حالة الأرض النهائية بحيث تصير مستعدة لاستقبال النفس الإنسانية بل استعمل الطحو فيجب البحث عن معنى يناسب المقام. ولدي أربع احتمالات:
    1. هناك عملية امتداد خاصة حصلت قبل حوالي 800 مليون إلى بليون سنة حينما تحرك الدرع العربي لينفصل عن الدرع النوبي وتشكل البحر الأحمر وقسم كبير من شبه الجزيرة العربية. ومكة هي نتاج ذلك الامتداد في الألواح التحتية وآدم مولود في مكة دون أدنى ريب. ولذلك سماها الله تعالى البيت العتيق باعتبارها بيت آدم كما سماها أول بيت وضع للناس بنفس الاعتبار كما أظن والعلم عنده سبحانه. فمكان الميلاد لم تكن منبسطة تماما بل كانت منطقة صخرية حتى جاء إبراهيم وإسماعيل وقاما بإزالة الصخور تمهيدا للحج. ذلك هو ما سماه سبحانه تطهير بيته كما أظن. وبالمناسبة فإن الله سبحان لم يسم المساجد بيته كما يظنون، ولكنه سمى مكة بيته، فأظن بأن مكة هي بيت الله تعالى باعتباره ورشة عمله لصناعة الإنسان ولصناعة الأنعام الصغيرة الثلاث. هناك بدأ سبحانه خلق الإنسان من طين حتى صار بعد تطورات كبيرة خلال مئات الملايين من السنين إنسانا قادرا على استلام النفس الإنسانية.
    فالإنسان الأول ولد في أرض غير مسطحة ولكنها ممتدة فتحدث سبحانه عن طحو تلك الأرض ليفرق بين الأراضي الممتدة الطيبة وبين الأراضي الصخرية. وقد نقل سبحانه أبوينا من مكة إلى طور سيناء بعيدين عن أبويهما وأسكنهما في جنة من الأعناب كما يبدو. كان المقصود أن لا يشاهدا الحركات الجنسية لدى الحيوانات التي كانت تعيش في مكة ويعيشا حياة طيبة في أرض سهلة كما أظن.
    2-4 هذه الاحتمالات الثلاث ترتبط بحالة الأرض تماما بعد تكاملها. فالطحو قد تشير إلى تكون التراب حول القشرة الأرضية وبدونها لم تكن الحياة ممكنة على الأرض لأنها الوسيلة الأولى لظهور النباتات. أو تشير إلى تكون غاز الأوزون حول الأرض وبدون ذلك الغلاف الغازي لم تكن الحياة ممكنة أيضا لأن ذلك الغلاف هو المسؤول عن امتصاص ما يضرنا من إشعاعات الشمس. أو تشير إليهما معا وأنا أميل إلى الاحتمال الرابع والأخير.
    وعلى أي حال أخي العزيز فإن طحو الأرض إشارة إلى المراحل النهائية من صناعة الأرض قبل ظهور الإنسان وليست إشارة إلى المراحل الأولى كما تفضلتم بظني القاصر. لكنني أعتبر مقالتكم رأيا آخر نشرت في المودة و أوصي زملائي بالاهتمام بما عنيتم بكتابته.
    إلا أنني أرفض رفضا قاطعا ادعاءات المرحوم الدكتور حسن جبل وادعاءات كل من ظن بأن للغة العربية جذورا مرتبطة بأصوات الحروف فهو كلام بعيد عن حقيقة نشوء اللغات برأيي القاصر. كان الأجدر أن يقول العليم الخبير سبحانه ذلك لو كان صحيحا ولكنه خطأ محض.
    مشكلتنا أخي الكريم بأن لدينا الكثير من الذين يضعون لنا القواعد والقوانين وهم أجدر من أمثالي باستعمال تلك القواعد ولكنهم لا يستعملونها مع الأسف. هي نفسها مشكلتنا نحن في مركز التطوير مع أخينا العزيز الطبيب سلامه. إنه سامحه الله تعالى نشيط بوضع القوانين ولكنه لا يطبق قوانينه وقواعده بل يعلنها ويريد منا أن نتبعه. أنا شخصيا ليس لدي أي مانع من أن أغير كل ما فسرته بناء على قواعد الطبيب وأظن بأن أخي الدكتور كمال شاهين على استعداد أيضا. ولكننا نريد من نفس الطبيب الواضع للقواعد أن يطبق قواعده حتى نطمئن بأنها قوانين صحيحة. هي مشكلة البشرية التي ضمت علماء مثل أفلاطون وأرسطو وابن سينا والفارابي والملا صدرا والسبزواري وغيرهم من أصحاب القوانين الذين لم يأتوا بتجربة صحيحة لما يدعونه.
    وأخيرا سمى الطبيب منطق أرسطو بعلم التفكير. أنا شخصيا درست المنطق الأرسطي واتبعته كثيرا ثم رأيت بأنه عامل توقيف لفكري بل هو عقبة أمامي. لاحظت فيما بعد بأن أولادي درسوا وتعلموا وفكروا أحسن مني ويلقون محاضرات أكثر مني علمية وهم لم يدرسوا علم الفكر حسب تعبير طبيبنا العزيز. وبما أنني مثلك محب للقرآن لاحظت بأن القرآن الكريم تجاهل المنطق والفلسفة ولم يعبأ بهما. أعرف من بين أصدقائي فلاسفة اضطروا لنوع من الشرك لأنهم تعمقوا كثيرا في بعض المسائل الفلسفية ولم يجدوا لها حلولا إلا بأن يعتبروا الإنسان مصنوعا من الله تعالى نفسه وليس من قوته فحسب. إن بعضهم ماتوا وما كنت قادرا على مساعدتهم ولكنني بعد التعمق في القرآن عرفت حل مثل تلك المعضلات وليس من المنطق ولا من الفلسفة.
    واسمح لي أخي العزيز بأن أقول لك بأن القواعد والقوانين فاقدة للقيمة العلمية قبل أن تكون مصحوبة بتجارب كاملة ودقيقة. إنك تتحدث عن تفوق اللغة العربية على بقية اللغات وليس بيدك دليل من القرآن ولا من العلم. صرح القرآن بأن الله تعالى يرسل الرسل بلسان أقوامهم وبأنه سبحانه يسر القرآن بلسان رسولنا ليقوم بتذكير الذين يعرفون لسانه. لم يقل ربنا بأن العربية متفوقة. وأما إذا أردت أن تعرف ذلك علميا فلا يفيدك شهادات بعض العلماء بل عليك بأن تجمع مالا يربو على مئات الملايين من الدولارات الأمريكية وتدعو مختلف الكليات المختصة بمختلف اللغات وتختار منهم العلماء الثنائيين الذين يعرفون لغتين على الأقل إحداهما ألفبائي والأخرى سنسكريتي حتى تتمكن من ادعاء تفوق اللغة العربية على أقرانها. وأخيرا ما فائدة هذا العمل؟ هل طلب الله تعالى ذلك منا أم أمرنا بأن نفكر في كتابه ونتدبر آياته ولم يأمرنا بدراسة اللغات.
    نحن نحتاج إلى نعود إلى القرون الأولى لنعرف كيف عرف عرب الحجاز أو كيف استعملوا تلك الكلمات. هناك كلمات في القرآن تعطي معاني متضادة فما فائدة أصوات الحروف؟ لقد ادعى المرحوم النيلي بأننا سنعرف القرآن بعد أن نوحد معاني الكلمات وهو ادعاء باطل وسخيف. قتلت نفسي بأن أجد معنى واحداً لكلمة مكررة في صفحة واحدة وكلاهما منصوبتان وهي كلمة “بغيّا” فلم أتمكن مع إلمامي الشديد بكتاب الله تعالى. تنفي مريم عن نفسها أن تكون بغيا كما ينفي بنو إسرائيل عن أمها أن تكون بغيا ولا يمكن أن نفسرهما بمعنى واحد في الحقيقة. ولذلك فسرت الأولى بأن المصطفاة مريم لم تكن تحب الزواج والثانية بأن والدتها الفاضلة الشريفة لم تكن زانية.
    وأخيرا أخي العزيز أدعوك بأن تفسر القرآن ثم تضع لنا القواعد. إنك حين التفسير ستميز بين الغث والسمين من القواعد التي وضعتها أو اعتقدت بها. وهكذا المرحوم حسن جبل الذي عرفته شخصا طيبا عن طريقكم فيا ليته تصدى للتفسير ليعلم بأن الكثير من التخيلات اللغوية لديه ولدى غيره ليست صحيحة.
    يهمني جدا أن يفصل الإخوة الكرام بين الحقيقة والادعاء. نحن بشر لا يمكننا التأكد من شيء إلا بعد أن نراها وبالنسبة للمؤمنين بعد أن يسمعوا تصريحا من الله تعالى. أنا شخصيا أعتبر كل التاريخ مثلا مجرد ادعاء لا يمكن الاعتماد عليه إطلاقا ولا يمكن أن نحكم به على أحد لأنني لم أر شيئا. وهكذا اللغة التي بدأ بوضعها الإنسان الأول ليتفاهم مع الإنسان الثاني. هناك إنسانان خلقا في رحم واحد كما يقول القرآن فكان لزاما عليهما أن يتفاهما. والله تعالى يسمي أدوات التفاهم بينهما اسما. هذا الاسم ليس هو الاسم في النحو الذي يشترك مع الفعل والحرف وليس الاسم في المنطق الذي يشترك مع الكلمة والأداة. هذا أو ذلك الاسم هو التعبير عما يجول في خاطر المتكلم البشري سواء كان تعبيرا عن كائن مشهود مثل الحجر والماء أو كائن غير مشهود مثل الملائكة والجن وسواء كان تعبيرا عن شيء له وجود في خارج الذهن أو عن شيء ليس له وجود فعلي خارج الذهن مثل المعنويات؛ وسواء كان تعبيرا عن أشياء أو عن أفعال مثل الضرب والضحك أو عن الروابط بين الشيء والشيء أو الفعل والشيء أو الفعل والفعل. كلها أسماء في واقعها؛ فنحن حينما نستعمل أداة أو حرف “في” لنربط بين جسم في الغرفة مع الغرفة نفسها فهي اسم لذلك الارتباط. فأظن بأن المقصود من تعليم الله تعالى لآدم (جنس الكائن المصنوع من أديم الأرض بكل أفراده) الأسماء كلها هي الأسماء والأفعال والحروف حسب مقولة النحويين أو الأسماء والكلمات والأدوات حسب تعبير المناطقة. فالاسم الذي علم الله تعالى البشر هو من وسم يسم بمعنى أعطى علامة مميزة لشيء موجود أو غير موجود، عيني أو غير عيني، شخص أو عمل أو رابط.
    ثم إننا نعود إلى وسيلة التفاهم بين البشر وهي منحصرة في اللغة وهي بدأت من طفلين صغيرين حسب فهم المؤمنين بالأديان السماوية هما آدم وحواء. ما كانا مهندسي لغة وما كانا عالمين بالجذور لكنهما عفويا أصدرا أصواتا للتفاهم بينهما ثم اضطرا بحكم الحاجة إلى تحديد مجموعة صوتية لكل ما يخطر ببالهما أو يستقر في ذهنيهما حتى يتمكنا من تحديد مقصود الطرف المقابل. هكذا صنعا أول لغة لا نعرف عنها شيئا ثم تعددت اللغات حسب حاجة البشر ومشاهداته وأفكاره وتخيلاته وما طرأ عليها من تغييرات في مختلف بقاع الأرض. فليست للغة هندسة دقيقة كما يظن البعض ولم يقل الله تعالى بالنسبة لنا نحن المسلمين بأنه هو الذي وضع اللغة بل لم يسم الله اللغة لغة ولكن سماها لسانا. فاللسان تعبير عن الصوت الذي يخرج من الفم بتحريك اللسان ولكن بعد تحديد الأسماء ليستفيدوا من تلك الأصوات.
    دعنا نتصور بأن الجد الأعلى آدم رأى سمكة في النهر أو البحر فسماها بوخ ثم خاطب قرينته حواء مشيرا إلى السمكة بصوت بوخ فعرفت المقصود وقامت تخاطب آدم بكلمة بوخ لتشير إلى السمكة. ثم لاحظ آدم بأن الأسماك أنواع فوضع لكل منها تجمعا صوتيا خاصا وأشار إلى قرينته فتعلمها منه وأصبحا يطلقان أسماء مختلفة على الأسماك. ثم بدءا بالتكاثر فوضعا أسماء لكل من أولادهما ليميزا بينهم ثم وضعا أسماء لحركاتهما وحركات أولادهما ولما يربط هذه الحركات بالذي يحرك أو الذي تقع عليه الحركة. وهكذا تكونت الأفعال والروابط أو الحروف أو الأدوات.
    هكذا نشأت اللغة الأولى ثم تشعبت وليس هناك أي دليل علمي على أصل اللغات كما ليس بيدنا أي تصريح قرآني لذلك الأصل. وباعتبار هذه الصدف المختلفة تعددت الأسماء لشيء واحد كما تعددت الأشياء المقصودة باسم واحد ولم يتمكن أحد من الفصل بينها. لم يفصل القرآن بين الضرب بمعنى السفر في الأرض وبين الضرب بمعنى الإيجاع وبين الضرب بمعنى العزف على الأدوات الموسيقية. لأن الألفاظ اللغوية كلها عفوية. ثم جاء من بعد ظهور اللغات ومن بعد نزول آخر كتاب سماوي ولما فرضته الحاجة بعد اختلاط المتحدثين بالألسن المختلفة؛ جاء الذين وضعوا قواعد نحوية وصرفية وبلاغية وبيانية. والكثير من القواعد النحوية سماعية وليست قياسية. هذه الخاصية ليست عربية بل هي لكل اللغات. لقد اطلعت على عدة لغات هي الفارسية والإنجليزية والفرنسية وقليل من الألمانية والإيطالية فرأيتها جميعا تقريبا تنقل السماع لبيان التصاريف المختلفة للفعل وأكثرها غير قياسية.
    وأما أمثلتك التي أتيت بها لتثبيت ادعاءات الأخ الدكتور حسن جبل فهي كلها مجرد ادعاء. اسمح لي بأن أنقل لك حكاية بسيطة. قبل عدة سنوات طالعتني الموقع الفكري لمركز الإعجاز العلمي للقرآن والحديث صفحة بديعة عن التين. أراد أخونا الفاضل عبد الدائم الكحيل بيان كلمة التين في سورة التين. الصفحة البديعة انطوت صورا جميلة نشرها علماء الغرب والشرق حول شجرة التين ومراحل زراعتها وقدمها وفوائدها ووو. فكتبت للأخ كحيل كتابا لأول وآخر مرة حيث أنه لم يرد علي ودعني أقول بأنه لم يتمكن من الرد علي. قلت له أخي الكريم ليست التين ككلمة من مستحدثات القرآن بل هي كلمة استعملها العرب من قبل. فكان التين ككلمة وكفاكهة معروفة بين الذين أنزل عليهم القرآن ولم يذكر القرآن أي شيء عن المسائل التي نقلتها عن أناس لا يؤمنون بالقرآن سعيا منك لتضخيم القرآن في القلوب. أنا أقدر سعيك ولكنك غير موفق. ولو أردت أن تتحدث عن التين في القرآن فأرجو منك أن تقرأ الآيات الكريمة بإمعان ثم تسعى لتقول لنا التالي:
    ما هو ارتباط التين بالزيتون؟
    وما هو ارتباطهما بطور سينين؟
    ثم ما علاقتهما وعلاقة طور سينين بالبلد الأمين مكة؟
    و بعد ذلك توضح لنا أهمية كل ذلك في خلق الإنسان في أحسن تقويم.
    هكذا تفسر التين في القرآن وليس بالطريقة التي سرت فيها بدون أي دليل أو برهان وبدون أية إشارة من القرآن الكريم.
    لم يرد علي سيادته ولو كان متنازلا عن قلعته الرفيعة وطالبا مني أن أوضح له جواب تلك الأسئلة لفعلت ولكان هو ازداد علما وفهما بكتابه السماوي. ولكن المشكلة الثانية لدى العقل العربي مع الأسف هو الكبرياء بلا سبب واضح مع الأسف. يتحدثون بما يحلو لهم ويريدون من الجميع أن يخضعوا لهم وغير مستعدين ليقولوا أخطأنا. ولذلك فإن أمتنا العربية ومن ورائها أمتنا الإسلامية لن يتطوروا ولن يسايروا الركب الحضاري مع الأسف. عليهم أن يغيروا ما بأنفسهم حتى يغير الله تعالى ما بهم إلى الأحسن.
    أخي العزيز أنت تتحدث عن أوهام لغوية مع الأسف ولكن نيتك دون شك طيبة. يجب أن تثبت قبل كل شيء صحة كلام الدكتور حسن جبل لأنه ليس واضعا للغة العربية ولكنه يدعي ادعاء وهميا دون أي دليل. أصواته الحرفية وجذوره اللغوية لا تفيد الذين يسعون لفهم القرآن لأن الكتاب العظيم منزل قبل ظهور سيادته والكلمات القرآنية ليست موضوعة على أساس فهمه بل على أساس فهم المصطفى محمد عليه السلام وقومه أخي الكريم. وأسلوب الأخ الدكتور الكحيل أسلوب خيالي فاقد للقيمة العلمية ومجرد ادعاء باطل.
    وأما قولك الكريم التالي: لم يترك القرآن الكريم صغيرة ولا كبيرة لهداية البشر في العلم إلا أحصاها، وها هو يوضح لنا معني ومواصفات السديم الذي خلقت منه الأرض والسماء. انتهى النقل.
    ليس الأمر كذلك ولم يقل الله تعالى بأن كل صغيرة وكبيرة لهداية البشر في العلم موجودة في القرآن الكريم. قال تعالى في سورة الأنعام: قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59). بدأ الله تعالى بالقول أن الرسول لا يحمل علم ما يستعجلون به. ثم قال بأن مفاتح الغيب عند الله تعالى وقال في نهاية الآية بأن كل رطب ويابس في كتاب مبين ولم يقل في القرآن أخي الكريم. القرآن كتاب مبين ولكن ليس كل كتاب مبين هو القرآن. الحديث عن كتاب الكون والخلق وهو كتاب عند الله تعالى وليس باللغة ولا بالمفاهيم التي نعرفها بل هو واضح عنده بطريقة إلهية لا ترتبط بنا إطلاقا.
    ولم تتعب نفسك أخي الفاضل لتعطينا الآيات التي تتحدث عن الإلكترونيات وعن الكمبيوتر وعن القنابل الهيدروجينية والفرق بينها وبين القنابل الذرية وووو. حتى الرياضيات وعلم الحساب غير موجودة في القرآن. هذا الكتاب العظيم هدى للناس ليعلم الذين يريدون أن يرضوا ربهم كيف يرضوا ربهم ويكسبوا رضوان ربهم ويدخلوا جنات النعيم وينجوا من عذاب النار وليس كتاب علم أخي الكريم. أتمنى أن تتخلى عن التعصب غير المطلوب للقرآن وتسعى لفهم آيات ربك بما أعطاك الله تعالى من فهم للغة العرب وما تفهمه من معلومات علمية دون أن تضيف إلى كلمات الله تعالى ما لم يقله الله نفسه.
    أعتذر كثيرا من أنني قدمت النصح لسيادتكم وهذا لا يعني بأنني متفوق عليكم ولا يعني بأنني لا أقر وأعترف بسعة علمكم. لكنني حريص على أمتنا العربية والإسلامية وهم يتبعون أمثال سيادتكم أن يفكروا بأنفسهم ولا يتبعوا أحدا ويستفيدوا منكم ومن غيركم في حدود تفتح أذهانهم فقط. أنا أظن بأن اتباع ما تفضلتم به في رسالتكم القيمة واتباع المرحوم الأستاذ الفاضل حسن جبل واتباع بقية علمائنا الكرام بمثابة اتباع للأوهام والخرافات ولذلك كتبت ما كتبت على شكل رسالة إرشادية وأعتذر كثيرا منكم ومن كل القراء الكرام مقدما. أتمنى من الله تعالى أن يوفقني وإياكم لتصحيح أخطائنا ولتثبيت أقدامنا على طريق العلم والمعرفة ورعاية مصالح البشرية.
    أحمد المُهري
    31/8/2016
    #تطوير_الفقه_الاسلامي

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.