الغرائز النفسية !

الغرائز النفسية
SENSE SELF
Personal communication
هذه المقالة مستقاة من تفسيري للآية 179 من سورة الأعراف. وبما أن سيادة الدكتور (طبيب) محمد سلامه قد أثار موضوع المثل العلا في النفس بصورة جدية وأنا لست في موضع يمكنني أن أجزم بأنه مخطئ أو بأنه مصيب ولذلك سأنشر تفسيري لهذه الآية الغريبة التي نحتاج معها إلى الإمعان المتناهي والدقة الكبيرة لنعرفها. وهذه تمثل الملاحظات التي دونتها لنفسي حين التفسير يوم 14 نوفمبر 2014.وأنا لا أنصح الذين يريدون القراءة السريعة لمثل هذه المقالات أن يطالعوا هذه المقالة الخطيرة.
قال تعالى في سورة الأعراف:وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴿179﴾.
هذه الآية غريبة لأنها كما يتراءى لنا تتحدث بأن الله تعالى خلق أفرادا أو جماعات من الجن والإنس ليدخلهم النار ولم يخلقهم مخيرين للجنة أو النار. والواقع أن الهدف الأساسي من خلق الجن والإنس هو إثبات أن الله تعالى يستحق العبادة والخضوع له بدليل وجود كائنات تخضع له من تلقاء نفسها دون جبر طبيعي مهيمن عليها.لقد أثبت الذين يعبدون الله تعالى اختيارا بأن الكائنات الطيبة التي أراد الله تعالى أن تكون طيبة دون خلل مثل الملائكة والأرواح القدسية والذين يحملون عرش الكون وما شابهها من كائنات ملائكية في غاية العفة والطيب والتي تسبح الله تعالى؛ فهي لو ملكت الإرادة فسوف تعبد الله تعالى دون استنكاف. وعليه فهي تستحق هذا القدر من التقريب إلى معرفة ربها والممنوحة لها من ربها.الذين يعبدون منا ليسوا بطيب الملائكة وليسوا بقوة الملائكة وهم يرضخون للحقيقة المطلقة فكيف بالذين هم أصفى منا خلقا وأقل تلوثا بالمادة التي تبعد الإنسان عن الحقيقة المطلقة التي نسميها الله عز اسمه.
فالآية الكريمة تتحدث عن سنة إلهية عظمى في الخلق ويجب أن نتحرى الدقة الكافية  لنفهمها.فلو نفكر في كل ما يفعله الإنسان من أعمال ابتكارية فإننا نراها جميعا تحمل طابعا يربطها بالمبتكرين. شأن كل المبتكرات هي شأن الجمل والمقطوعات الشعرية والغنائية وكل الأعمال الفنية التي تشهد شهادة دقيقة بمبتكريها وصناعها ومؤلفيها. فلو ننظر إلى نهج البلاغة مثلا والطريقة التي اتبعها الشريف الرضي رحمه الله لاستكشافها ونفكر فيها فسنجد بأنه لم يتبع الأسلوب الروائي ولذلك سمى كتابه نهج البلاغة. إنه فكر في أسلوب الإمام علي عليه السلام لخلق الجمل ولبيان ما في الضمير واحتفظ في قرارة نفسه بقالب بلاغي لتلك الجمل المبتكرة التي تحمل طابع صاحبها ثم طبق كل ما سمعه من المحدثين على ذلك القالب الذي ظنه قالب منهج الإمام في تركيب الجمل وعلى أساسه أقر ببعض الخطب دون بعض. كما أنه حذف بعض الجمل دون بعض فنراه يقول كثيرا حين نقل خطبة: ومنها… هذا يعني بأنه لم يتمكن من وضع بعض الجمل المنقولة من الإمام في القالب البلاغي في ذهنه ولذلك حذفها.والحقيقة برأيي أن نهج البلاغة البعيد تماما عن النهج الروائي والديني هو أصح كتاب روائي ينبئ كثيرا عن النمط البلاغي للإمام علي بن أبي طالب كما ينبئ عن أفكاره وأفكار المهاجرين الأولين إلى حد كبير. وهكذا يتعامل علماء الفنون البلاغية مع أشعار القدماء وهكذا يميزون بينها.كل ذلك لأن ما وصلتنا من كل مبتكر يحمل طابع المبتكر في كل تكويناته. فهل يمكن أن نرى ابتكار الرحمن غير متداخل في كل مخلوقاته؟ إن كل الخلق يدل عليه سبحانه وتعالى دلالة قالبية دقيقة وعلى أساسه نقول بأن الخالق واحد.
رحم الله المرحوم أحمد زكي رئيس تحرير مجلة العربي الكويتية وهو مصري طبعا حيث قال:وحدة الله تتراءى في وحدة خلقه.فلننظر إلى تماسك هذا الخلق العظيم ونطبقه على خلق النفس الإنسانية المدركة. نحن بأبداننا وبماهيات نفوسنا جزء من ذلك الخلق العظيم ولا يمكن لأبداننا ولحقائق نفوسنا أن تتخطى نظام الخلق شعرة واحدة. لكننا نحن بوجوداتنا النفسية مختارون في حدود طبعا. وعلى أساسه قال سبحانه في سورة فاطر واسمحوا لي أن نقرأ المجموعة بمتناهي الدقة لعلنا نعرف سنة الله تعالى في خلق الإنسان وتمييزه عن غيره ثم نفكر في تجميع الإنس مع الجن في آية الأعراف:وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إلاّ مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إلاّ خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إلاّ غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ أَن تَزُولا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إلاّ نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الأرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إلاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاّ سُنَّتَ الأوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43). نلاحظ بأن الخلافة لله تعالى هو فقط في هذه الأرض التي نعرفها وليس في حياتنا ما بعد الخروج من هذه الأرض. ونلاحظ بأن هناك سببا وجيها لهذه الخلافة وهو الاختبار فقط. ونلاحظ بأن اختيارنا لا يمكن أن يفسد نظام الإمساك الذي لا يفارق الممكنات لحظة واحدة. ونلاحظ بأنه سبحانه وفي يوم القيامة يرد على الذين يقولون بأنهم لو عادوا إلى الأرض ومنحوا الاختيار مرة أخرى فإنهم سوف يتبعون سبيل الهدى. يرد عليهم ربهم بأن كل الاختبارات على نفوسكم تدل على غير ذلك فلا معنى لإعادتكم إلى الأرض. يستدل سبحانه على قيام هذه المخلوقات المدركة العاقلة بإشراك غير الله تعالى مع الله في الاختيارات دون أن يكون لهذه الشركاء أي دور للمنح التي منحنا إياها ربنا الكريم. ويستنتج سبحانه بأن الاستكبار هو التفسير الصحيح لمخالفة الإنسان مع الحقائق وليس الجهل.والمتكبر يستحق النار ولكن الجاهل قد يشمله العفو.ونقرأ آيات من سورة يونس:وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الإنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18).
أما بعد؛ نعود إلى آية الأعراف وننظر إليها نظرة شمولية على أساس ما فهمناها من آيات فاطر ويونس الكريمة. ليس هناك سبق إصرار على أحوال العباد المكلفين جنا وإنسا، بل هناك سبق منح الله تعالى قدرات وإمكانات مشابهة للجميع حتى آخر أيام الحياة في هذا الكوكب لينظر كيف يعملون. الجن والإنس متعادلون في هذه المنح دون أي تمييز كما نعرف من سورة الأعراف. فهذه المنح الرحمانية لا يمكن أن تكون منحا مادية موجودة في أعضائنا المادية لأن الجن لا يشاركوننا الأبعاد الثلاثة. فعلينا أن نبحث عنها في مكوناتنا النفسية. وكل ما نبحث في المكونات النفسية فإنا لا نجد فيها غير إمكانات التخزين وإمكانات الارتباط بالخارج وبالقلب وبالصدر وإمكانات المعالجات النفسية الدقيقة التي نسميها الإدراك النفسي. كلها أجهزة وأدوات غير مادية وقد تكون نفس الشيء موجودا لدى الجن.لكن هذه الآلات الطاقوية لا تكفي لاختبارنا بل نحتاج إلى قدرات نفسية أخرى للمقاومة أمام القوى التي تزاحمنا سواء الشهوات أو القدرات البشرية والجنية لدى الكائنات المشابهة لنا في التكليف عامة. ونحن في الواقع نشعر بوجود هذه القدرات معنا ولكننا لا نميز بين الفطري والمكتسب منها إلا بصعوبة في الواقع. لا يمكن أن تكون القدرات المكتسبة التي نسميها العادات معيارا عاما لاختبار الجن والإنس على مدى عشرات الآلاف من السنين الماضية ومدة طويلة أخرى بالانتظار. ذلك لأن هناك اختلافا كبيرا بين الأمم والعوائل والأفراد. إذن الحديث عن غرائز طبيعية مشتركة لدى كل أفراد الجن والإنس.فمثلا غريزة حب الذات التي تحدثت عنها كثيرا فهي ثابتة لدى الإنس كما نشعرها بالوجدان وثابتة قرآنيا لدى الجن تبعا لقصة الشيطان مع ربنا حينما أمره بأن يسجد لكائن دون مستواه لحماية ذلك الكائن البشري الضعيف بدنيا، ولكن الشيطان أبى واستكبر. فهو مثلنا يحب ذاته. ويكفينا ما نراه في كل القرآن من آيات التبشير والإنذار التي تدل دلالة واضحة على وجود هذه الغريزة لدينا جميعا والله سبحانه يستند إليها ليشجعنا على ترك الشهوات واتباع المنطق الصحيح والسليم.لنرتفع في هذه الغريزة إلى الله تعالى نفسه ونسعى لفهم بعض صفاته الكريمة. إنه سبحانه متكبر ومتعال دون جدال. إنه مؤمن بنفسه ويُكرم نفسه ولا يرضى أبدا بأن يُهان. ذلك دليل على أنه سبحانه يحب ذاته. ولذلك خلقنا على أن نحب ذواتنا. نحن نمثل لمسة إلهية نورية قاصدة هادفة تريد خلق خليفة لله في الأرض.فلو نريد أن نتعرف على الفطريات علينا أن ننظر إلى الصفات المشابهة الموجودة عند الجبار نفسه لنفرق بينها وبين العادات المتمثلة في صفاتنا التي لا ترتبط بالقدوس أبدا. مثال ذلك الأكل والشرب وممارسة الجنس وما يتبع كل ذلك من مقومات فهي ليست غريزية ولا يمكن أن تمثل فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا يمكن أن تعكس قوله تعالى في شأننا ردا على إبليس كما في سورة ص:إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78).
واسمحوا لي أن أوضح موضوعا مهما هنا فقد يخطر ببال البعض أن يمارس الكبرياء مع خلق الله. نلاحظ قبل كل شيء أن الله تعالى لا يستعمل قوته ضد من يخالفه ويتكبر عليه ويكتفي كثيرا بتوجيه التهديد والإنذار له.ثم إن الله تعالى لم يمنعنا أن نمارس الكبرياء مع الأنعام فنقتلها لمأكلنا ولكنه منعنا من العبث بها. إن تواضعنا جميل مع البشر وليس مع غير البشر. والله تعالى كان يتوقع من الشيطان أن لا يمارس الكبرياء مع من صرح الله تعالى بأنه خلقه بيديه فهو مثل الجن في ارتباطه النفسي بالله تعالى كما أظن. والله تعالى لوحده يتكبر لعدم وجود أي كائن مماثل له فهو لا يليق به إلا التعالي والتكبر وإلا أنزل عن نفسه مراتب اللياقة والشأنية، سبحانه وتعالى عن ذلك.وذكر الجن لنعلم بأن هناك خلقا آخر مشابها لنا وهم لا أبعاد لهم فلا يمكن لنا رؤيتهم ولا الاستماع إليهم فهم أقوى منا ولكنهم لا يمارسون الكبرياء ضدنا ومن أراد منهم ذلك فإن الملائكة له بالمرصاد. على هذا الأساس احتمالا اعتبر الجنُّ إبليسَ سفيها يتكبر على من أمره ربه ألا يتكبر معه. اعتبروه مبتعدا عن تعليمات السماء وعن حقائق الأمور وقائلا على الله شططا.لعلنا عرفنا أهمية الجن والإنس باعتبار ما أودع الله تعالى في نفوسها من قدرات ذاتية ليختبرها بها كما وضح بالنسبة للإنس في سورة الأنعام:قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (165). فلنسع الآن لفهم الآية الكريمة.ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس:الحديث عن الخلق الذري وليس عن الخلق المادي المعروف. والخلق الذري هنا المشترك بيننا وبين الجن هو الخلق الطاقوي المشترك. ففي أصغر تكوين لنا أودع الله تعالى غرائز مشتركة بين الجن والإنس ليختبرهم بها. لكن هذه الغرائز التي تكبر الإنسان على كثير مما خلقه الله تعالى فهي توحي للمرء بالكبرياء وتحفزه على عدم الاهتمام بالغير إذا ما لم يحسن استعمال تلك الغرائز. فالواقع أن هذه الغرائز الطيبة القوية المتعالية تغري الكثيرين فتدخلهم النار والذي فعل ذلك فيهم هو الله تعالى. فلو خلقَنا دون منحنا تلك النفوس القوية المتشابهة لما دخلنا النار. فعلى كل فرد منا أن يرتفع إلى مستوى المسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقه وإلا فإن قدراته سوف تورطه وتدخله النار. وهنا نحتاج أن نقرأ آيات من نهاية الأحزاب لنتعرف على خطورة الخلافة لله تعالى:إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لاّ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (73).
يوضح الله تعالى عدله الكامل في الآيتين الأخيرتين بأنه عرض الأمانة على كل الكائنات ولكن القادرَ على حملها كان الإنسان وليس غيرها. هذه هي أمانة الإرادة الإلهية لدى البشر المادي. فالله تعالى عرض هذا النوع من الأمانة على كل شيء مادي فلم يتمكنوا من حملها غير الإنسان. هذا دليل واضح على أن حديث الآية يدور مدار وجود إمكانات الإرادة في كل تكويناتنا المادية أيضا. والحق أن القدرة النفسية تحتاج إلى إمكانات بدنية لتفعيلها فهما متلازمتان.ثم وضح الله تعالى في الأعراف مقصوده من هذه المنح التي قد تورط الكثير من الجن والإنس ليستحقوا النار بدلا من الجنة بقوله:لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها:
نحن لا نفهم الكثير عن هذه المسائل لدى الجن ولكننا نفهم بأن الوسيلة المشتركة بيننا هي النفس وليس البدن. فأبداننا في الواقع ليست فاعلة مريدة ولكنها آلات حقيقية بيد نفوسنا. فلنسع لفهم التفقه والإبصار والسمع البدني قبل كل شيء ثم نطبقها على التفقه والإبصار والسمع النفسي. نعرف بأن القلوب هي مراكز الإدراك في النفس ونعرف بأن وسيلة الارتباط بين القلب والصدر الذي يمثل وعاء المعلومات النفسية وكذلك العالم الخارجي هو الفؤاد. فالفؤاد يبعث إشعاعات في المحيط ليسمع ويبصر وينقلها إلى القلب ليساعده على التفقه.والتفقه يعني الوصول إلى حقائق لا نراها ولا نلمسها بالإمكانات المتاحة لنا.قال الراغب كلاما بديعا في تعريف الفقه: الفقه: هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، فهو أخص من العلم. هذا هو عين الإدراك من الدرجة الرابعة.وكل ظني بأن الفؤاد وهو مسؤول الارتباطات فهو ينقل المعلومة التي تفقه فيها القلب إلى الصدر على شكل كاسيتات صوتية وعلى شكل صور وكلها بالديجيتال طبعا. ويمكن لنا الانتباه إلى أن معلوماتنا المخزونة في صدرنا وما يشابهها في خلايا المخ فهي ليست صورا رسمية وكاريكاتورية فحسب بل تنطوي على مسموعات لا يمكننا الجزم بصحتها إلا بعد التفقه الدقيق والمرور على كل الاحتمالات.أولئك كالأنعام بل هم أضل:لاحظنا بأن السبب الحقيقي في استحقاق النار ليس هو الخلق الذري لربنا بل هو عدم الاستفادة من الإمكانات المتاحة وعدم الاعتماد عليها. فهم كالأنعام باعتبار أن الأنعام لا تملك ذلك ومن لا يستعمل إدراكه فهو كمن لا يملكه. مثاله مثال البخيل الذي يملك مالا لا يصرفه على نفسه، فهو كمن لا يملك المال.وأما اعتبارهم أضل من الأنعام فهو لأن الأنعام في واقعها تستعمل كل إمكاناتها الإدراكية وتتطور ولا تهتم بالمواريث ولا بالآباء ولكن هؤلاء لا يستعملون إمكاناتهم ويقلدون الغير و يعتمدون على غير نفوسهم فهم فعلا أضل من الأنعام.أولئك هم الغافلون:لنعد إلى آية الخلق الذري التي شرحناها من قبل وهي في نفس سورة الأعراف: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173).القدرات والغرائز الطبيعية الخاصة بالإنسان والتي أودعها الله تعالى في كيان النفوس البشرية لمنحها إمكانية التدبير وتفعيل الإرادة ليست موجِّهة بل هي مجرد قوى غريزية يمكن للمرء أن يعود إليها ويستفيد منها لتفعيل إرادته وبها تتبلور حقيقة كل إنسان على حدة. فالغفلة التي تتحدث عنها آية الأعراف بظني هي الغفلة عن القدرة البدنية المساوقة للقدرة النفسية والتي يغفل عنها الناس حينما يأخذون قراراتها بأي إحداث أو تفعيل. فحينما يفكر المرء ليرى بأن الله تعالى هو الذي منحه كل شيء وليس لأي كائن غيره أي دور في المنح الطبيعية، هناك لو رفض الشرك فإنه لن يخلق نزاعا بين نفسه وخلايا بدنه بل سيكون منسجما مع كيانه المادي انسجاما كاملا. فالغفلة هي الغفلة عن الانسجام الكامل بين النفس والبدن حينما يدفع الإنسان عن نفسه كل مظاهر الشرك والعلم عند المولى عز اسمه
أحمد المُهري
10/8/2016 
#تطوير_الفقه_الاسلامي
اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.