بديهيات الفلاسفة الكرام !

بسم الله الرحمن الرحيم
بديهيات الفلاسفة الكرام
LOGIC.jpg
كنت في مقتبل العمر وكان المرحوم الوالد حريصا على نقل معلوماته العلمية إلي وإلى أخي مرتضى. أما مرتضى فقد استجاب لرغبة أبينا وذهب إلى النجف وصار عالما تقليديا بالدين، وأما أنا فأبيت ذلك وقلت للوالد بأنني أختار التجارة لمستقبلي ولا أريد علم الدين. هذا ما شجعه على أن يصرف وقتا طويلا ليعلمني العلوم التقليدية لغرض في نفسه. إنه كان يتحسر دائما عند زملائه عن سبب رفضي ويقول بأنني سوف أرقى إلى أعلى المراتب خلال فترة وجيزة. هذه هي الحكاية باختصار. ولننتقل إلى بعض التفاصيل.
وحينما بدأ يعلمني المنطق الأرسطي، هنا بدأ النزاع أكثر من دراسة العلوم العربية من نحو وصرف وبلاغة. ذلك لأن النحويين مثلا على اختلاف مذاهبهم فإن كلا منهم يستعين بأمثلة من القرآن الكريم أو من الشعر العربي لتأييد فهمه لكنك لا تجد ذلك عند المناطقة. يقول النحوي بأنه بصدد وضع قواعد لوقاية المعاصرين من الخطأ في لغة سار عليها الأقدمون. لكن المنطقي يقول بأنه بصدد وضع قواعد لصيانة الذهن عن الخطأ في الفكر. الهدف رفيع جدا ولكن الكثير من مقومات علم المنطق تستند على البديهيات بلا دليل. فمثلا كان يقول لي أبي بأن الإنسان حيوان ناطق فأقول له ولماذا لا يكون الإنسان حيوانا ضاحكا أو حيوانا باكيا وكلاهما من خواص الإنسان. فيقول بأن النطق توضح حقيقة الإنسان ولكن الضحك والبكاء لا تمثل حقيقتنا بل إنها من ميزاتنا. فأقول بأي دليل؟ الجواب: هذا بديهي. والخلاف لم يتوقف على هذه المسألة البسيطة بل تجاوزت إلى الكثير من قواعد المنطق في العمق والتي لا تفيد القارئ الكريم.
وحينما أقول لوالدي رحمه الله تعالى بأن ما يتفضل به ليس بديهيا عندي وأحتاج إلى دليل؛ فكان جوابه في النهاية حينما تكبر ستعلم بأنه بديهي ولا يحتاج إلى دليل. كبرت ولم أتمكن من قبول بديهيات المنطقيين أو بديهيات أرسطو. لذت إلى الفلسفة ولكن عن طريق المطالعة بلا معلم. رأيت بأن المرحوم ابن سينا يبدأ كتابه بالألغاز ويوصي تلاميذه بألا يبوحوا بهذه الألغاز للعوام لأنهم عاجزون عن استيعاب هذا العلم العظيم. هذه الألغاز عبارة عن كودات تظن بأنها كلمات عربية ولكنها تُستعمل لغير المتعارف. إنها مصطلحات فلسفية بمعنى أن الفلاسفة يستعملون الكلمة التي يستعملها النحوي لمعنى مغاير للمعنى الذي يقصده الفلسفي. كان علي أن أعرف بأن الكلمة اسم وفعل وحرف لدى النحويين وفي المقابل فإن الكلمة اسم وأداة لدى الفلاسفة. هذا مثال بسيط حتى لا يسأم القارئ العزيز.
لاحظت بأن ابن سينا يعتبر نفسه حقا يجب اتباعه والباقون تلاميذ عليهم أن يسعوا ليفهموا ما يقوله المعلم الثالث ابن سينا في مقابل المعلم الأول أرسطو والمعلم الثاني الفارابي. لا محاجة مع المعلمين الكبار. ثم نصحني أحد العلماء الكبار حينما كنت في إيران غب الثورة أن أستعين بمعلم فليس صحيحا قراءة الفلسفة بل يجب دراسته. قلت له بأنني أفهم ما يقوله صدر المتألهين في كتابه العرشية فلا داعي للمعلم. قال ما معناه بأن هذا العلم ينطوي على ألغاز ينتقل بين صدور أهل الفن دون مدوناتهم. هناك استعنت بأستاذ كبير آخر وهو والد أحد زملائي الدبلوماسيين لأتعلم عنده علم الكلام أو ما يمكن تسميته بالفلسفة الإسلامية. هذا المعلم كان فعلا يفهم العلم وكان فقيها ألمعيا وفي منتهى الذكاء. لكن مسألة البديهيات عادت إلى الظهور. وأنا بطبيعتي أرفض أي ادعاء بلا دليل. هذا المعلم لا يمكنه أن يقول لي إذا كبرت تفهم كما قال أبي لأنني كنت كبيرا وكنت عضوا فعالا في ثورة نجحت وهو يعلم بأنني الذي عينت ابنه في منصبه فأنا لست صغيرا.
وحينما استعنت بالقرآن بدأت أعرف الكثير من أخطاء الفلاسفة والمناطقة والكلاميين ومن يحذو حذوهم. الله العظيم لا يقول لنا مفهوما بلا دليل ويمر على بعض المفاهيم دون أن يتعرض لها لأن عقولنا لا تتحمل ذلك. فالأبدية والأزلية وبداية الخلق والأولية مسائل يصعب على العقل استيعابها ولذلك يمر القرآن عليها بالإشارات فقط. لكن فوائد الصلاة والوضوء والصيام والحج والجماعة والأعياد والزواج والميراث واحترام أجساد الموتى فهي مسائل يمكن لنا استيعابها فيوضحها القرآن بما يكفي للمفكر فهمه حد الكمال تقريبا. وأما إشارات بدء خلق الإنسان ومتحف الله تعالى في مكة ولماذا منع آدم وزوجه من الارتباط الجنسي ووو فهي مجموعة ألغاز تحتاج إلى أن تفهم الكثير من المسائل خارج القرآن لعلك تستوعب جوانب منها وتنقلها للغير على استحياء.
عرفت من القرآن مشكلة وحدة الوجود وكيف أحلها مما عجز أصدقائي الفلاسفة من حلها لي وعرفت بأن الإنسان في واقعه ليس حيوانا ليصفه بالنطق فالإنسان لا بعقله ولا بجسمه. عرفت بأن عودة الإنسان بنفسه إلى بدن جديد ليس قسرا كما ظنه فلاسفتنا العظام لكنهم لم يفهموا كيفية العودة. عرفت بأن إبراهيم حينما قال له ربه أو لم تؤمن فهو سبحانه لم يقصد النيل من إيمان إبراهيم لكنه رأى إبراهيم خائفا من أمر مستقبلي فأراد أن يعطيه الثقة بأن إيمانه بالله يكفيه ليعلم بأن ربه لن يقدر للمؤمنين أي خطر بعد انتهاء الحياة الدنيا. تعرفت على الكثير من أخطاء العلماء الكرام من فقهاء وفلاسفة وكلاميين وغيرهم. أنا الآن لست بصحة جيدة ولا أظن بأنني سأعيش فترة طويلة يمكنني من أن أكتب كلما أعرفه. لكنني كنت جادا لأكتب ردا على فسلفة ابن سينا الذي احترمه في نفس الوقت لكن مقصودي أن أقول لإخواننا الفلاسفة بأن هرم التطور مقلوب عندهم فعليهم أن يغيروا أسس تفكيرهم.
كل علمائنا الفلسفيين والدينيين يظنون تقريبا بأن التطور العلمي تراجع شيئا فشيئا فما قاله أرسطو هو أصح مما قاله الفارابي وما توصل إليه ابن سينا هو أصدق مما عرفه فيما بعد صدر المتألهين أو ملا هادي السبزواري. فعلينا بداية أن نعدل هرم التطور في أذهان علماء الفلسفة والمنطق والكلام والفقه حتى نُخرج رجال العلم من حالة الببغاوية ثم نطالبهم بتصحيح مقولاتهم العلمية. يجب أن يكسب علماؤنا الأفذاذ الشجاعة الكافية ليقولوا بكل سهولة وبكل احترام: أخطأ أرسطو وأخطأ ابن سينا وأخطأ الفارابي ونصير الدين الطوسي والسبزواري. نحن نحترمهم جميعا ونحترم علمهم ولكننا نرفض بديهياتهم العلمية.
والخلاصة علينا أن نعامل كل أهل الأرض معاملة الند للند بعكس تعاملنا مع كلام الله تعالى الذي نعتبره دليلا منطقيا على صحة المفهوم الذي يتعرض له القرآن الكريم أو التوراة المنزلة من السماء. في العلم لا توجد بديهيات والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أحمد المهري
#تطوير_الفقه_الاسلامي
30/7/2016
اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.