حديث الفطرة التي تتكلم !

الفطرة لا تتكلم, ولا يمكن قراءتها, وقد يكون من الصعب فهمها أيضا
 
سيادة الأخ الطبيب محمّد سلامه Muhamad Salamah أعزه الله تعالى ونفعنا بتحقيقاته,
 
أنا لا أنكر الفطرة وقد ذكر الله تعالى الفطرة في سورة الروم ولكنه لم يقل بما يقوله سيادتكم. قال تعالى: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32). كلما نعرفه عن الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها ولعلها خاصة بالناس أو بهم وبالجن باعتبار أنهم مكلفون مثلنا؛ كلما نعرف هو أن الفطرة تعني الالتزام بالدين وهو موجود لدى كل إنسان. ولذلك فإنني أنا وإياك وسيادة الدكتور كمال باعتبار التزامنا بالدين رجحنا الدين الإسلامي على بقية الأديان. لكن صديقي سيدني رجح المسيحية على الدين الإسلامي وصديقي المرحوم ألبرت حكيم رجح اليهودية على الإسلام. نحن جميعا ملتزمون بالدين ولكن كل واحد منا يختار الدين الذي يراه أكثر استقامة حسب رأيه أو حسب هداية الله تعالى له.
 
ما تشعر به سيادتك من وجود فطرة كما شرحتم، فأنا لا أشعر به ولكنني أشعر بأن الله تعالى وبعد أن عقدت العزم على فهم دينه بنفسي وتركت اتباع آبائي وأهلي فإنه أكرمني كثيرا وعلمني القرآن. شعرت بعظمة القرآن بعد أن اكتشفت الكثير من أسراره بفضل من الله تعالى ونعمة ولكنني ما شعرت أبدا بأن في داخلي ما يزيدني معرفة أو يعلمني كيف أميز الرشد من الضلال. سيادتكم تنفون دور الملائكة التي تقوم بالكثير من المساعدة. قال تعالى في سورة البقرة:
 
وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (102). بالطبع لا أريد تفسير الآية العظيمة فقد أخذ تفسيرها أكثر من ساعة ونصف الساعة مني حينما فسرتها لزملائي. وهي آية اختلف فيها المفسرون أكثر من أية آية أخرى، وجاء المرحوم العلامة الطباطبائي وضرب احتمالات المفسرين في بعضها البعض لتصل النتيجة إلى عدد مهول وهو: 2260000 احتمالا. وقد قلت لزملائي الكرام بأن العدد الآن صار 2260001 احتمالا لأنني أتيت باحتمالات أخرى.
 
لكننا نريد أن نحلل مسألة واحدة في الآية وهي ما يقوم به هاروت وماروت. إنهما دون شك ملكان ولذلك يقومان بعملهما بصورة ثنائية. نلاحظ بأننا نحن البشر بأفرادنا نُعلِّم وهما معا يعلِّمان شخصا واحدا أو تلميذا فردا. إنهما يوحيان إلى من يسعى لعلم أو يأمرهما ربهما ليعلماه فهما يرفقان نصيحةً بوحي العلم ليمنعاه تشريعيا من أن يكفر. فلو كان المتعلم يحمل فطرة بداخله يمنعه من أن يكفر أو يعلمه طريق الخير والشر أو العلم والجهل فلماذا يوحي الملائكة إليه ألا يكفر؟ ما ضرورة ذلك؟ بفرض صحة ما يتفضل به سيادة الطبيب سلامه فالملكان المقربان يأتيان بعمل زائد لا داعي له.
 
صدقني أخي العزيز أنني صبرت أتابع ولا أكتب لأن جدك في الكلام وثقتي بعلمك جعلني أشك بما أعلم. قلت في نفسي لعلك أنت مخطئ وقول الطبيب هو الصحيح ولذلك فكرت مليا ولكنني أرى بأنك تتحدث عن مسألة غيبية بلا دليل من القرآن الكريم.
 
وأما قول سيادتكم بأن البشرية من يوم آدم كان يعرف اليوم الآخر. هذا يعني بأن سيادتكم تعرفون معنى اليوم الآخر فهلا عرفتموه لنا أولا ثم نتعاون معا لعلنا نرى بأن آدم كان يعرف اليوم الآخر. ولكن إشكالي لم يكن حول اليوم الآخر بل حول الآخرة. اليوم الآخر هو يوم من أيام الآخرة ولكن الآخرة بنفسها محل إشكال لدى البشرية. كل الآثار القديمة السومرية والبابلية والفرعونية وكذلك كتب التراث تدل على أن البشرية ما كانت تعرف شيئا عن الآخرة أو تعرف قليلا جدا. تصور بأن غالبية المفسرين حتى المعاصرين يجهلون التسميات المختلفة للقيامة ويظنون بأنها من أهوال يوم القيامة. فالتغابن والواقعة وطي السماء والآزفة وجمع الشمس والقمر ووو كلها شيء واحد. وهي في واقعها أيام مختلفة ومتباينة زمانيا وحادثيا. لاحظ الذي يظن بأن هناك شفاعة في الآخرة، كيف يمكن أن تقول بأنه يعرف معنى الآخرة؟ أكثر رجال الدين اليوم شيعة وسنة لا يعرفون النشأة الثانية ويجهلون مسألة الدمار الكوني.
 
وأما صديقي سيدني الذي تعرفت عليه قبل 22 عاما، فما عرفت منه إلا الطيب في الواقع. كان شابا وسيما وعالما ومستشارا تجاريا كبيرا ولكنه يصرف بعض وقته لدعوة الناس إلى المسيحية التي يؤمن بها. لقد تزوج مع فتاة لعبت بها أهواء الشاب فأخرجته من الجادة وأراد سيدني أن ينقذها فتزوج بها وهذا ما اعترفت به زوجته أمامي وهي أول زوجة ولم يتزوج غيرها. وحينما عرف بأنني آكل من مدخراتي وليس لي عمل مع شهاداتي التجارية الكبيرة جاء إلي وعرض علي عملا استشاريا في إحدى الشركات البريطانية الكبرى لقاء مرتب شهري قدره 10000 جنيه استرليني ليساعدني فقط. بالطبع رفضت عرضه بحجة أن هذه الشركات تريد أن تستغل علاقاتي وعلمي بأسرار المنطقة التي انبثقت منها لتزداد ثراء وأنا أرفض ذلك. إنه إنسان وديع وودود ويحب الناس ويظن فعلا بأننا على باطل وبأن المسيحية هي الدين الحق.
 
أنت تعرف بأنني شيعي وأهلي كلهم من الشيعة. كل أهلي يرفضون الظلم ويبتعدون عن الإجرام تقريبا على أن الكثير منهم لمس القوة حينما كنا في إيران باعتبار علاقاتنا مع السنام الأعلى. وكلهم تقريبا يظنون بأن بعض الموتى في القبور سوف ينجوهم من عذاب يوم القيامة وبأنهم يمنحون أتباعهم البركات والهدى. كلهم تقريبا يقلدون المراجع ويظنون بأن تقليد المرجع هو الطريق الوحيدة لجلب رضوان الله تعالى. إنهم يعلمون بأنني أخالفهم في معتقداتهم ولكنهم يحسنون إلي ويسعون لإرضائي دون حاجة إلي. أضف هؤلاء إلى سيدني.
 
وأما صديقي اليهودي المرحوم ألبرت حكيم فدعني أبوح ببعض أسراره لأنه مات ولا خطر عليه. إنه أمريكي من أصل إيراني وهو مترجم الرئيس ريغان في قضية إيران جيت. لكنه كان يؤمن بأن أهله في إسرائيل حمقاء وقد باعوا أنفسهم رخيصة على أمريكا. كان يقول بأن من خير الإسرائيليين أن يصطلحوا صلحا حقيقيا مع الفلسطينيين ولن يخسروا شيئا من الفوائد الأمريكية. وهذه حقيقة كنت أقولها للإيرانيين في بدايات الثورة. قلت لهم مرارا بأن الغرب كل الغرب تجار يريدون بيع سلعهم وإلا يشعلون الحرب ليبيعوا الأسلحة. قلت لهم من خيركم ألا تعادوا الغرب وتشتروا منهم ما تساعدكم على النقل والزراعة والصناعة عامة والتجارة وتستفيدوا من جامعاتهم. هكذا تنجوا من الحروب. لكنهم لم يسمعوا كما أن بني إسرائيل لم يستمعوا إلى ناصحيهم من بني يعقوب.
 
هؤلاء أناس طيبون يريدون الخير للناس ولا يحبون الحروب ولكنهم لا يعتقدون مثلنا بالقرآن. ولعلك تذكر الرئيس ذاكر حسين الذي ترأس الهند فترة قبل حوالي نصف قرن وهو مسلم وشيعي أيضا وقد زار الكويت. قلت وقتها لبعض أصدقائي من السيخ والهندوس كيف تنتخبون رئيسا مسلما لجمهورية الهند. كانوا يقولون لي بأنه عالم كبير يحب الهند ويفيد الهند ونحن نثق به ونعتقد بأن دينه لنفسه وليس لنا. والهنود شعب ينظر إلى الخير العام وليس فردا ولكن غالبيتهم يظنون بأننا نفتري على الله الكذب بأن ننسب القرآن إليه سبحانه. ولي أصدقاء من الأرمن ما رأيت منهم إلا الخير وقد اتصل معي أحدهم قبل عدة أشهر وبعد أن فارقتهم منذ ربع قرن فقط ليبدي لي بأنه يحبني ويتذكر الأيام الجميلة التي عشنا فيها معا في طهران. هؤلاء لا يظلمون أحدا ويحبون البشر وليسوا مجرمين ولكنهم يرفضون كتابنا السماوي. أنا أجهل علاقاتهم مع الله تعالى وأجهل السبب في أن ربنا لم يهدهم مع أنني صديق لهم وكان بإمكانهم أن يتعلموا مني الكثير من القرآن.
 
هناك أخي العزيز سياسة أخرى نجهلها عند ربنا. وحتى أقرب لك المسألة فأرجو أن تفكر في شخصية عمر بن الخطاب الذي حارب الرسول سنتين وأراد أن يقتل الرسول ولكنه بعد سنتين صار مسلما بدعوة من أبي بكر وحسن إسلامه ودافع عن الإسلام والمسلمين وكان يحب الرسول ويحب كل بني هاشم من أجله. دعنا نتصور السنتين التي رفض فيهما دعوة الرسول فقط. دعنا نتصور بأنه كان قد مات في ذلك الشرك فما كان مصيره. بالطبع أنا أظن بأن الله تعالى كان يغفر له ولا أدري ما الذي يظنه أخي الطبيب رعاه الله تعالى؟ أنا أظن ذلك لأنني أؤمن بأن معايير السماء ليست هي المعايير التي نعرفها نحن. وأؤمن بأن القرآن وهو الكتاب السماوي الوحيد الذي أبقاه الله تعالى مصونا لكل البشر، فهو يفيد الذي ظن فيه كتابا سماويا ولا يفيد الذي لم يعرف شيئا عن القرآن. إنه يفيد العرب أكثر من غير العرب كما يفيد الذين تعلموا العربية أكثر من الذين لم يتعلموا العربية. هذا الكتاب ليس مشفوعا بتفسير واضح ودقيق منزل من الله تعالى أو مكتوب بيد رسوله الذي أنزل عليه. فعدم اتباع الناس له لا يدل على شراسة الناس بل يدل على سياسة إلهية لا نعلمها.
 
لكن كل هذه الأمثلة تدل على عدم وجود نازع نفسي يوضح لنا طريق الهدى ويمنعنا من اتباع طريق الضلال.
 
وأما الآيات التي استندت إليها فاسمح لي أن أكتب مختصرا عن كل منها لعلك تقبل بأن وجود تلك القوة النفسية مجرد وهم.
 
1. {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (108) سورة يوسف
 
لو كانت الآية الكريمة دليلا على الفطرة العامة لأمر الله تعالى نبيه بأن يقول: قل هذه سبيل الفطرة التي فطر الله الناس عليها. فحينما يقول سبيلي فهو يعني بأن القرآن وهو المشار إليه بهذه كما أظن، هو سبيل حبيبنا محمد عليه السلام. فالقرآن يمنحه البصيرة كما يمنح من اتبعه البصيرة. وأما نهاية الآية فهو كما أظن دليل واضح على عدم وجود الكاشف النفسي لأنه يسبح الله تعالى وينفي عن نفسه الشرك. يقول بأن نفسه ليس شريكا مع الله والذي هداه ويهدي غيره هو الله تعالى وحده.
 
2. {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} (14) سورة القيامة
 
أرجو أن تقرأ آية قبلها لتعلم بأن الحديث يدور مدار أعمال الشخص ولا علاقة له بما في قلب الشخص من قوة إلهية. قال تعالى قبلها، وأذكرها مع ما بعدها: يُنَبَّأُ الإنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الإنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15). وأنت تعلم بأن بل حرف استدراك تفيد الإضراب عن الموضوع السابق وتثبيت اللاحق. فالإنسان ينبأ بأعماله يوم القيامة وهو لا يحتاج إلى ذلك لأن نفسه على نفسه بصيرة. ولعل السر في تأنيث بصيرة هو أن الإنسان آنذاك ليس إلا نفسا مجردة عن البدن والنفس مؤنثة والعلم عند المولى عز ذكره. وهذا يحتاج إلى الذاكرة النفسية وليس إلى ما تفضلتم به.
 
3. {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (4) سورة التين
 
{ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } (5) سورة التين.
 
لنقرأ سورة التين بالكامل رجاء: بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8). التين والزيتون وطور سيناء ومكة كلها مواد لا علاقة لها بالنفس. والله تعالى استعمل مجموعة من المقومات البدنية في خلق الإنسان وتعليمه الغذاء الذي يبعده عن الحاجة إلى اللحم ليبعده عن الجنس. تلك هي مقومات استعملها الله تعالى ليخلق الإنسان في أحسن تقويم، وقد فعل ذلك فعلا. وأما رد الإنسان إلى أسفل سافلين فهو أمر سلبي لا يليق بالقدوس العزيز عز اسمه. فالله تعالى يتحدث عن الحرية التي أتاحها لعبده فتحرك العبد أسفل سافلين. لو كان هناك مانع نفسي لتَحرك العبد بالاتجاه الذي رسمه له ربه فلا شيء هناك غير النفس نفسه التي تذهب وراء الهوى وتتبع الشياطين أو تذهب وراء الإيمان وتتبع الملائكة. الله هو الذي يفعل كل الخير فينا وليس نفوسنا. قال تعالى في سورة الشعراء على لسان إبراهيم:
 
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79). أليس كلام إبراهيم معقولا؟ أليس الطبيب سلامه يسعى لأن يهدي أولاده وأصدقاءه وأهله جميعا بغض النظر عما في نفوسهم؟ فكيف ننفي الهداية بصورة دائمة من الله تعالى مباشرة لأننا عبيده وهو يحبنا ولذلك خلقنا بيده ومنحنا النفس الإنسانية المدركة؟ نفسنا تدرك والله يهدي والشيطان يضل ولا هدى بيد الفطرة. هناك بعض المسائل النفسية مذكورة في القرآن مثل ما ذكرته من سورة النور. أضف إلى ذلك هذه الآية من سورة آل عمران:وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (81).
 
هذا الميثاق الموجود مع كل إنسان هو ميثاق نفسي في كياناتنا وهو ينتظر دعوة الأنبياء فإذا أتوا فإن هذا الميثاق يساعدنا لنسمع إليهم. لاحظ أخي العزيز بأن هذا الميثاق موجود لدى كل إنسان وحينما جاء الرسل وأعلنوا دعوتهم فإن أكثر أفراد قومهم رفضوهم ولم يعبئوا بما في نفوسهم من عهود إلهية. لو كان ما تتفضل به موجودا لما احتجنا إلى ميثاق بسيط لنتقبل الأنبياء كما نتقبل الأديان.
 
4. {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (172) سورة الأعراف
 
وهنا أيضا دعنا نقرأ الآية التي بعدها: أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173).فالآية الكريمة تريد إثبات أننا لسنا أتباع آبائنا بل هناك فصل كامل بيننا وبين ما يسير عليه الآباء. وكيف تم هذا الفصل؟ نعلم بأننا بأبداننا نُخلق من الحيمن الذكري مع البويضة الأنثوية ولكن الله تعالى صرح بأن الروح الموجود في كلتا الخليتين فإن الروح الموجود مع الخلية الذكورية هو الذي يخلق النفس الإنسانية. ونعلم بأن البدن في الحياة الدنيا هو السابق على النفس بعكس الحياة في الآخرة. قال تعالى في سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1). هذه الآيات تتحدث عن النفس دون البدن. فأول نفس هو نفس أبينا آدم ومنها خُلق نفس أمنا حواء ليحبا بعضهما البعض، ثم خُلق الأولاد من تلاقيهما وخُلقت مع كل إنسان نفسُه. والعلماء المعاصرون يعلمون بأن هناك الكثير من الأفكار والعقائد والعادات تنتقل وراثيا من الأعلى إلى الأسفل. أراد الله تعالى أن يوقف انتقال العقائد فقدر خلق الحيامن وهي خلايا أحادية بعضها ذكر وبعضها أنثى. هذه الحيامن عبارة عن نفس الخلايا الموجودة ولكن الطبيعة بأمر ربها تفصل المجموعتين بداخلهما عن بعضهما البعض وحين الفصل تتلاشى العقائد بصورة طبيعية. لست عالما بالجينات ولكني أفكر في كل شيء.
 
إن كل توريث في الكروموزومات فهو توريث ثنائي، بمعنى أن الفكر يتواجد في اجتماع المجموعتين داخل الخلية وليس في كل مجموعة على حدة. ونحن من القرآن وليس من علم الجينات نعلم بأن الروح الإلهي المتوارث بيننا والموجود في كل خلايانا فإنه هو الذي يخلق النفس الإنسانية. ولكن الله تعالى قدر للروح الموجود مع الذكور أن يخلق وليس الروح الموجود مع النساء. والسبب واضح وهو أن التطور أصل أساسي في خلق الله تعالى والكائنات لا ترضى بالتراجع. الإنسان يتراجع بإرادته ولكن بدنه الذي ليس بيده فهو في تطور مطرد. وحينما يقوم الروح بصناعة النفس للذكر فهو لا يمانع أبدا أن يخلق نفسا أكثر تطورا من نفس الذكر. وبكل سهولة نعلم بأن نفس الأنثى أكثر تطورا من الذكر لأنها تدير بدنا أكثر تطورا باعتبار أن الأنثى قادرة على خلق البدن الإنساني وعلى الرضاعة وهما ليسا في مقدرة الذكر. فلو قدر الله تعالى للروح وهو قوة إلهية أو نور إلهي موجود في كل خلايا المرأة أن يخلق ذكرا فسوف يرفض لأنه يدير بدنا أكثر تطورا فلا يرض التراجع. ولكن الروح الذكري لا يمانع لأن خلق الأنثى عمل تطوري بالنسبة له.
 
وباختصار أظن بأن هذا الذي تشير إليه الآية. والجملة الكريمة “وأشهدهم على أنفسهم” هو باعتبار تجاوب الكائنات كلها مع ربها وليس هناك حديث فعلي. كما أن السماء والأرض قالتا أتينا طائعين ولكن بالتجاوب مع أمر الله تعالى وليس بالقول المشابه لقولنا نحن البشر مع ملاحظة مختلف معاني القول. فالآية في صدد إثبات أن ربنا الخلاق العليم فصل بيننا وبين أفكار آبائنا حينما خلق الحيامن التي صنعتنا، والعلم عند المولى. ولكن ليس في الآية أية إشارة إلى ما تفضل به أخونا الطبيب سلامه من وجود قوة نفسية مخلوقة مع كل إنسان وهي تمثل فطرته التي فطره الله تعالى عليها.
 
5. {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } (14) سورة الإسراء.
 
أظن بأننا نرى في محاكمنا الدنيوية وحينما يقدم إضبارة كاملة للمتهم ويرى فيه صوره فإنه يعرف بأن القضاء يعرف عنه كل شيء وسيعرف نتيجة المحاكمة. هناك يحاسب المرء نفسه بنفسه. وهذا ما سيحصل في الآخرة. وقد أنزل الله تعالى قبلها الآية التالية: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14). هي عينا وضع المتهم في حالة مشابهة لحاله في محاكمنا الدنيوية إذا ما جمعت السلطة التنفيذية براهين كافية لإدانته وأروه إياها. والآية تضيف بأن الله تعالى سوف يوضح درجة الإدانة بدقة للمتهم. وهذا معنى ألزمناه طائره في عنقه. لنقرأ هذه الآية من سورة النمل لعلنا نعرف معنى الطائر: قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47). التطير معناه نسبة العلة إلى شخص باعتبار أنه شخص غير ميمون. فيقولون حينما ينزل عليهم الغضب من السماء بأنه بسبب شخص معين يطيروا به. والرد الذي قدمه صالح لهم هو أن الله تعالى وراء كل حركة في الأرض وليس صالح. فالطائر هنا معناه العلة المسببة لما نراه. وقوله تعالى ألزمناه طائره في عنقه يعني بأن العلة التي سببت له الحرمان من الرضوان هو نفسيته وشخصيته التي بناها لنفسه. والعلم عند الله تعالى.
 
 
ثم إنه سبحانه أعقب الآية التي استندتم إليها من سورة الإسراء بهذه الآية الكريمة: مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15). يؤكد الله تعالى بأن كل إنسان سوف يحاسب بكل دقة على ما فعله بإرادته وعلمه وليس على ما صدر منه دون إرادة ولا دخل لأي إنسان في عمل إنسان آخر والله تعالى لا يعذب قبل إنزال الهدى للناس. استنادك إلى الآية 14 لا يساعدك على إثبات الفطرة التي تتظننها ولكن الآية 15 قد تساعدك لو تنظر إليها نظرة سطحية. فيمكنك أن تقول بأن الرسول المبعوث قد يكون في نفس الإنسان. ولكن حينما تتعمق تعرف بأن الله تعالى يتحدث عن إثارة رسول من خارج النفس وهذا معنى البعث. قد يمكن اعتبار الملائكة رسلا في هذا المقام ولكن لا يمكن أن تكون النفس كذلك. لأنه تعالى قال: حتى نبعث رسولا. و أداة “حتى” لا يمكن أن تفيد خلق شيء معنا بل تفيد حصول شيء في المستقبل.
 
6. {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (24) سورة النــور.
 
 
هل الفطرة التي يتحدث عنها سيادتكم هي في الأيدي والأرجل والألسن أم في النفس الإنسانية؟ هذه الآية كما أظن تتحدث عن شهادة الخلايا البدنية بما فعله المرء. الخلية كائن غريب لا يمكننا اليوم فهم كل أسرارها وأظن بأن آية سورة ق التالية تتحدث عن كودات تلك الخلايا. هذه الخلايا تتأثر بالسن فلم لا تتأثر بما فعله صاحبها أيضا؟ وآية ق هي: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4). فالأرض لا تنقص من نفسنا شيئا لأن النفس تنتقل إلى عالم آخر حين الموت ولكن الأرض تدمر الكيان البدني وليس لدينا شيء يمكن أن يصور أعمالنا غير الخلايا كما أظن. ولا صلة لآية النور بالفطرة قطعا. ولو تصرون على ذلك فأرجو إثبات أن الآية تدل على الفطرة التي تحدثتم عنها.
 
 
وأما احتمال سيادتكم بأن لا تجريم إلا بنص فالفطرة ليست نصا. الفطرة لا تتكلم ولا يمكن قراءتها وقد يكون من الصعب فهمها أيضا. فلا حجة في الفطرة أخينا العزيز. ولذلك فإن الله تعالى يحتج برسله وكتبه ولم أجد نصا قرآنيا على أن الفطرة شاهد على الشخص أو حجة عليه. وأما آية سورة الأعراف فإن الله سبحانه أعقبها بقوله الكريم: أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174). فبيان حقيقة انتقال الخلية الحاملة للروح أو الطاقة الخلاقة في القرآن لا يستهدف توضيح الفطرة. كلا، بل لئلا يقول الناس يوم القيامة بأنهم أبرياء لأنهم كانوا ذرية آبائهم الذين أشركوا من قبل. هي ليست حجة اليوم ولكننا يمكن أن نعرفها؛ إنما هي حجة علينا يوم القيامة حتى لا نقول بأن آباءنا نقلوا إلينا شركهم وعقائدهم الفاسدة. فكيف تريد إثبات احتمالاتك عن طريق آية الأعراف؟ إن الفطرة التي وضحتها لنا هي عامل مساعد لنا في حياتنا الدنيا لكن آية الأعراف تنبؤنا عن حجة تقام علينا يوم القيامة فحسب.
 
 
أعتذر بأنني أطلت عليك وعلى إخواني وأخواتي الذين يتفضلون علي بقراءة ما أكتب وأتمنى التوفيق لنا جميعا من ربنا لمعرفة كتابه المجيد.
 
 
 
 
أحمد المهري
#تطوير_الفقه_الاسلامي
29/7/2016
تعليق واحد
  1. ambmacpc :

    المسألة باختصار

    والمسألة, باختصار, أن البعض منا يخبروننا بأن الله سبحانه وتعالى قد وضع فينا عند خلقنا يوم الخليقة فطرة سليمة تحوي القيم, والأخلاق, والمثل العلا, والفضائل, وتنزيه الله وتعظيمه فيتساءل البعض منا عن كيف علِم ذاك البعض منا بما فعله الله يوم الخليقة. هذي أمور لا يعلمها إلا الله. فيرد البعض منا بأن الله قد اصطفاه وجعله يرى ما لا نراه وأن هذه النعمة لم تكن بجهد منه وإنما بفضل ومنة من الله. فيرد البعض الآخر منا بأن ملاك الوحي الذي اعتاد أن يخبر البشر بما لا يعلمه إلا الله لم يعد يخبر أحدًا بشيء على الإطلاق وما عاد أحد فينا “يعلم” ما لا يعلمه أحد إلا الله.

    وكأن المسألة, بهذا الشكل, هي أنه إذا كان الحديث عن الفطرة التي تحتوي القيم, والأخلاق, والمثل العلا حديث غيب فإن ردنا هو أن لا علم لنا. هذي أمور لا يعلمها إلا الله. أما إذا كان الحديث حديثا عما نعرفه من ضمن ما نعرفه عن دنيا الله فما على من يحدثنا سوى أن يخبرنا بما رآه, وكيف رآه, ومتى رآه, وسوف نبذل غاية جهدنا في محاولة رؤية ما رآه, وقتما رآه, وبنفس الطريقة التي رآه بها. فإذا رأينا ما رآه شكرناه على مساعدته لنا على رؤية ما لم نكن نراه, أما إذا لم نرَ ما رآه فسوف ننبهه إلى خطأ ما قاله ونخبره بأننا لم نرَ شيئًا.

    وكأن المسألة, بهذا الشكل, هي أنه إذا كان الحديث حديث غيب فلا حديث لنا, أما إذا كان الحديث “علم” فإننا لم نرَ شيئا. وعلى من يحدثنا عن الفطرة التي تحوي القيم, والأخلاق, والمثل العلا أن يساعدنا على أن “نرى” ما “رآه”. لا يمكن لمن وضع كتب الأئمة العظام في مكانها اللائق بها في متاحف الفكر الديني أن يتبع ما يكتبه المفكرون الإسلاميون الجدد وهو مغمض العينين. نريد أن نرى. نحن نريد أن نرى ما رآه فضيلة الأستاذ الدكتور محمّد سلامه. وطلبنا هذا طلب عادل فنحن لا نطلب أكثر من رؤية ما رآه فضيلته. ما الذي رآه مفكرنا الإسلامي الكبير فدفعه إلى الإعلان عما فعله الله يوم الخليقة؟ ثم هل يمكن أن يرى المخلوق البشري شيئًا في عالم الشهادة فيخبرنا عما حدث في عالم الغيب عند بدء الخليقة؟ هل هذا ممكن؟
    #تطوير_الفقه_الاسلامي

    29 يوليو 2016

اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.