وجه الإختلاف والتشابه بين الصحافة والأدب مقال #جــودت_هوشيار

وجه الإختلاف والتشابه بين الصحافة والأدب
جــودت هوشيار         

 

لا أحد يعرف على وجه الدقة ، هل الأدب أقدم من الصحافة ، أم الصحافة أقدم من الأدب؟ . بعض المؤرخين الغربيين يطلقون على الصحافة اسم ( ثاني أقدم مهنة في التأريخ) ، ويجزمون ان مهنة (بيع الهوى) ، هي أول وأقدم مهنة عرفها الجنس البشري .  ولكن لا توجد شواهد أثرية أو تأريخية تؤكد هذه المزاعم ، في حين توجد أدلة قاطعة على ممارسة الأنسان البدائي – ذكراً كان أم أنثى – لحرف ومهن حياتية وعملية ، ضرورية لأستمرار الحياة ، ولم يكن بينها ،هاتان المهنتان .
الأدب قديم قدم الأنسان ، ويحدثنا علماء الآثار والأنثربولوجيا عن نصوص أدبية يعود تأريخها الى  اربعة آلاف سنة قبل الميلاد ، مثل التراتيل الدينية والأساطير والملاحم ، ومن ابرزها ملحمة جلجامش ، في بلاد الرافدين .وكتاب الموتى ، وأناشيد الرعي والأستسقاء والعبادة والغزل في مصر الفرعونية . والذاكرة الإنسانية حافلةبالأعمال الأدبية الخالدة مثل  ” الألياذة ” و” الأوديسا “ لهوميروس ،  ناهيك عن قصص ألف ليلة وليلة ، وكتاب كليلة ودمنة . كل هذه النتاجات الأدبية كتبت  قبل أن يظهر للوجود أبسط شكل من أشكال الصحافة البدائية .
يقال بأن أول (صحيفة) في العالم صدرت في روما سنة 85 قبل الميلاد ،بأسم ( الأعمال الرسمية )  أسسها الأمبراطور يوليوس ، الذي أمر كبار موظفي دولته أن يدونوا جميع أعمالهم على لوح يعلق في الميادين عامة ، ثم صدرت (صحيفة) أخرى كانت اكثر انتشارا لأنها كانت تنشر أخبار الخاصة والعامة .
الصحافة في بداية ظهورها لم تكن منتظمة الصدور، ولم تنشأ أول صحيفة دورية ، الا في سنة 1631  في فرنسا . اما في العالم العربي ، فقد نشأت الصحافة على أيدي الأدباء والنقاد الرواد. ويكفي إلقاء نظرة على تأريخ الصحافة العربية ، وتراجم روادها الأوائل ، في كل من مصر ولبنان والعراق ، وفي سائر البلدان العربية ،  لأثبات هذه الحقيقة الموثقة.
الصحافة والأدب نوعان من الإبداع اللفظي . ولكنهما يستخدمان أدوات تعبيرية مختلفة ، وأساليب لغوية متباينة ، وقد أخذا منذ أواخر الخمسينات من القرن الماضي يقتربان من بعضهما من حيث استخدام التقنيات الكتابية والمادة الخام ، ويمكن تلخيص أهم وجوه الأختلاف والتشابه بينهما، في نقاط محددة وواضحة ، على النحو التالي :  
أوجه الأختلاف :
1– تقوم الصحافة على جمع وتحليل الأخبار والتحقق من مصداقيتها وتقديمها للجمهور وغالبا ما تكون هذه الأخبار متعلقة بمستجدات الأحداث على الساحة الداخلية والخارجية ، أوتتناول شتى جوانب الحياة السياسية والأقتصادية والثقافية والأجتماعية والرياضية وغير ذلك. وأغلب ما يكتبه الصحفي يستند الى وقائع وأحداث حقيقية واناس حقيقيين . الصحفي المحترف هو في خضم الناس والأحداث دائماً ،ومثل   الجندي في خندق القتال ، في حالة استنفار دائم . اما الأديب فأنه يعمل ، في عزلة وهدؤ ، عندما يأتيه الألهام ويكتب في تأمل وروية في البيت أكثرالأحيان ، وان كان بعض كبار الروائئين والشعراء اعتادوا الكتابة في المقاهي أيضاً .
2- الصحفي العامل في الصحافة اليومية أو الأذاعة أو التلفزيون ، لديه مواعيد محددة لأنجاز ما كلف به من أعمال .وكلما اسرع في عمله كان ذلك افضل . فهناك المنافسة والسبق الصحفي ، وليس لديه الوقت الكافي لأعادة كتابة المادة الصحفية أكثر من مرة . أما الأديب فأنه يصرف الجزء الأكبر من وقته  ليس في كتابة النص الفني فحسب ، بل في صقله على هواه ، فهو يقدم ، ويؤخر ، ويضيف ويمحو ، ويغيّر هذه الكلمة أو الجملة أو تلك  ، وفي معاودة النظرفيه اكثر من مرة ، فهذا هو عمله الأساسي. من يصدق أن عبقرياً مثل ليف تولستوي كان يعيد كتابة فصول رواياته الطويلة مرات عديدة ، وكذلك هيمنجواي الذي أعاد كتابة بعض فصول رواياته عشرات المرات ، وهي ظاهرة شائعة لدى معظم الأدباء الروائيين . أما في الشعر ، وكان الشاعر الرائد والمبدع بدر شاكر السيّاب يقول ، أن مهمة الشاعر الرئيسية هي الحذف والأختصار . واذا كان المقال الصحفي يمكن كتابته – اذا لزم الأمر –  خلال بضع ساعات ، فأن الرواية قد تستغرق  كتابتها عدة سنوات.الصحفي عندما يتناول الصحيفة في الصباح فأنه يرى ثمرة عمله بالأمس ،. اما الكاتب فأنه ينتظر احياناً سنوات لأصدار كتابه الجديد.
3- يبدو لي ان الفرق الجوهري بين الصحفي والأديب . هو درجة الحرية الشخصية التي يتمتع بها كل منهما . الصحفي لا يمكنه أن يكتب حسب  هواه ، بل يلتزم بالسياسة التحريرية للصحيفة التي يعمل بها ، ان لم يكن هوشخصيا مالك الصحيفة . أما الأديب فلا رقيب عليه سوى عقله وضميره وذوقه الفني .
4 – الشيء الرئيسي في الصحافة هوالمحتوى الموثوق ، ولكنه يتقادم بسرعة . فعمر المادة الصحفية هو المسافة الزمنية التي تفصل بين صدور عددين من الجريدة أو المجلة .  أما الأدب فلا يتقيّد بالحاضر ، بل لا يتقيّد بزمان ولا مكان ، وقيمته الحقيقية تكمن في مستواه الفكري والفني . وما يبدعه الأديب يظل حياً ومقروءا لعشرات وربما لمئات السنين.
5- الصحافة ، بمفهومها الحديث حرفة أو مهنة لها اصولها وقواعدها ويمكن تعلمها ، في كليات ومعاهد الصحافة أو خلال العمل الصحفي . أما الأبداع الأدبي ، فإنه موهبة فطرية ، يتمتع بها قلة نادرة من الناس .  بذرة الموهبة يمكن تنميها بالمرانة ومعاودة النظر ، ولكن من يفتقر الى هذه البذرة لا يمكنه خلق نتاج إبداعي حقيقي .
6- لغة الصحافة واضحة وبسيطة ومرنة تنبض بالحياة ، والصحفي يحاول اجتناب الغموض ويتوخى مرضاة القاريء ، ولهذا فأن المواد الصحفية في متناول الجمهور العام . أما الأدب فأنه يمتاز بلغته العالية وأسلوبه الرفيع ، ويوجه في المقام الأول للنخب الثقافية التي تتذوق الأدب وتنشده ، وتستمتع به . بعض الكتاب عندما يكتبون مقالات صحفية بأسلوبهم المعهود في الأدب ، لا يدركون ان القاريء ليس لديه وقت لأستخراج الحقائق والمعلومات من عباراتهم الأنشائية الملتوية الغامضة .
7- الصحفي في بلادنا  يمكن أن يكسب لقمة عيشه من عمله ، أما الأديب – الذي ليس لديه مهنة أخرى يعتاش منها –  فأنه يعاني أشد المعاناة في حياته الخاصة وفي نشر نتاجه الأبداعي – شعراً كان أم نثراً فنياً – وتوزيعه الذي يستنزف الكثير من الوقت والجهد والمال ، ويعجز عن تأمين حياة كريمة له ولعائلته اذا كان ما يبدعه فوق مستوى الجمهور ولا يلقي رواجا في السوق . .
8- الصحافة أداة فعالة وقوية في التأثير ليس في الرأي العام فقط ، بل أيضاً في السلطات الثلاث (الحكومة ، والبرلمان ، والقضاء ) . ولهذا يطلق على الصحافة مسمى ” السلطة الرابعة ” . الأدب لا يمكنه ان يمارس مثل هذا التأثير المباشر والسريع .
أوجه التشابه :
          1 – الصحافة مدرسة نافعة للأديب ، يستفيد من خبرة العمل فيها في ادامة وتعزيز اتصاله بالناس وتوسيع آفاق رؤيته للحياة والعالم ، مما يشكل معيناً لا ينضب لتجربته الأدبية . وقد عمل العديد من كبار الأدباء في العالم كمراسلين صحفيين لسنوات طويلة . منهم هيمنجواي ، الذي اتاح له عمله في ميادين القتال ، ان يكون شاهد عيان على مآسي الحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية الأسبانية ، وانعكس كل ذلك في رواياته وأقاصيصه . كما أن الكثير من الكتاب الكلاسيكيين عملوا في الصحافة  ومنهم أنطون تشيخوف ، ومارك توين ، و ريمارك ، واورويل الذي ظل طوال حياته يمارس كلا النوعين من الأبداع ، وقال عنه النقاد أنه أعظم كاتب مقالات في الصحافة الغربية الى جانب كونه روائيا كبيراً.
          2- يقال ان «كل أديب صحفي، وليس كل صحفي بأديب”. ولكن هذه المقولة ليست دقيقة . صحيح ان الصحافة  قامت على أكتاف الكتاب  ولكنها  لم تعد كذلك منذ زمن طويل. بل تحولت الى صناعة ،  في حين أن الشهرة الأدبية للعديد من الأدباء ترجع الى عملهم الصحفي ، وقد خدمتهم الصحافة في استكشاف إمكانات التعبيرعن أنفسهم وتحسين  اسلوبهم وتطوير لغتهم نحو مزيد من المرونة والوضوح
         3- العلاقة المتداخلة بين الصحافة والأدب .ليس وليدة اليوم بل قديمة ، ويمكن اعتبار العديد من نتاجات الكتاب الكلاسيكيين روايات وثائقية بنيت على وقائع واحداث حقيقية . وقد أخذت  هذه العلاقة تتعمق وتتسع منذ الستينات من القرن الفائت ، ونجد اليوم ان الكثير من الروايات العالمية مبنية حول أشخاص حقيقيين وأحداث حيّة وواقعية . انهم يكتبون ما حصل في الواقع ، لتتخذ نتاجاتهم شكل الوثيقة ، وهذا النوع من الأدب يمكن تسميته بالأدب الفني – الوثائقي ، أو الأدب غير الخيالي . وبذلك أخذت الحدود بين الصحافة و النثر الفني تتلاشى . وهذا ما أقرت به  لجنة نوبل حين منحت جائز الآداب لعام 2015 الى الكاتبة البيلاروسية سفيتلانا الكسيفيتش ، التي تنتمي رواياتها الست الصادرة لحد الآن الى هذا النمط غير الخيالي . وليس من السهل على الناقد الأدبي اليوم ، ان يميز بين القصة الخيالية وغير الخيالية ، ناهيك عن القاريء العادي .
4-  لا ينبغي لنا أن نتساءل بعد اليوم أيهما أهم ،وأكثر التصاقاً بالحياة : الصحافة أم الأدب ؟ بعد أن أصبحت الفنون الصحفية والسردية متداخلة . الصحافة توظف اللغة الأدبية في المقال والأعمدة والتحقيقات الصحفية ، والأدب يستمد مادته مما يحدث على ارض الواقع  ويغتني بالفنون الصحفية . ولقد ظهرت في البلدان الغربية في الآونة الأخيرة روايات مستوحاة  من الصحافة الألكترونية وما توفره من معلومات ووسائل تفاعلية ، ولم تصل هذه الموجة الينا بعد ، كما لم تصل من قبل الرواية غير الخيالية، المتعددة الأصوات رغم مرور ستة عقود على ظهورها في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا.   
اترك ردا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.